إذا نظرنا إلى الواقع المادي - الموضوعي لحالة الطبقة العاملة اللبنانية ومختلف الطبقات الاجتماعية فسنرى أن وحدتها التاريخية مفقودة في أصل تشكلها الحديث والعصري. فالطبقة العاملة ومختلف الطبقات الاجتماعية كانت منذ بداية تكونها التاريخي منقسمة على نفسها، ولا تزال حتى الآن يشقها عموديا مجموع الطوائف والعشائر والعائلات. ويمكن القول إن هناك أشبه ما يكون بـ «الطوائف العمالية»، وليس طبقة عاملة موحدة متراصة الصفوف والقوى، ومنتظمة على قواعد اقتصادية - إنتاجية ثابتة، كما تصفها الكتب الماركسية الكلاسيكية.
على رغم كل المحاولات التي جرت لتصوير وحدة الطبقة العاملة كنموذج حي لوحدة وتراصّ وتماسك البلد، بقيادة حزبها الطليعي والقائد، كانت العواصف السياسية تهب لتطيح بوحدة هذا النموذج الذي يبدو أنه كتب عليه حتى الآن أن يبقى مجرد نظرية مكتوبة على الورق.
حتى إذا حصل وتوحدت الطبقة العاملة في لحظة معينة ضمن برنامج عمل مرحلي أو في إطار نضال مطلبي ونقابي محدد كانت سرعان ما تنشق هذه «الوحدة» العمالية إلى وحدات عمالية، والوحدات إلى «طوائف عمالية»، والطوائف إلى «عشائر عمالية»، والعشائر إلى «عائلات عمالية»، وهكذا إلى أصغر «وحدة» اجتماعية يقوم عليها هذا البلد (لبنان). وبدلا من أن تكون الحوادث المتفجرة والصراعات السياسية مناسبة تاريخية لاصطفاف الطبقات ضد بعضها بعضا، كانت تشكل دائما مناسبة لانشقاق الطبقات على بعضها بعضا، وانشقاق كل فريق إلى انتمائه الأصلي السابق للتطور الرأسمالي .
إن هذه «الحالة اللبنانية» ليست لبنانية، بل هي حالة عامة تشمل مختلف الأقطار العربية والبلدان الإسلامية ومجموع البلدان المتخلفة والريعية والتابعة لشبكة العلاقات الدولية. وقياسا على هذه اللوحة الفسيفسائية التي يمكن ملاحظتها في «الحالة اللبنانية» تؤكد أن كل بلد مشابه له يشهد في داخله صراعات معقدة، وليست واضحة كما هي الحال في البلدان الأوروبية المتقدمة اقتصادية وسياسيا.
وفي هذا المعنى يمكن ملاحظة أن كل البلدان العربية والإسلامية تقع ضمن إطار «الحالة اللبنانية» من حيث أنها تشهد سلسلة صراعات متداخلة ومتشابكة بين الطبقات في الطوائف والطوائف في الطبقات، أو العشائر في الطبقات أو الطبقات في العشائر، أو القبائل في الطبقات أو الطبقات في القبائل، إلى آخر لائحة الوحدات والكتل الاجتماعية القائمة. لذلك يمكن فهم الأسباب التي دفعت العامل الماروني المسيحي في عين الرمانة بالوقوف إلى جانب الكتائب والأحرار ليقاتل العامل المسلم في الشيّاح حين اندلعت الحرب الأهلية في 1975.
كما نستطيع أن نفسر لماذا الغالبية الساحقة من العائلات والإقطاعات والعشائر المارونية المتضررة من نمو وسيطرة حزب الكتائب وقفت خارج دائرة الصراع في الساحة اللبنانية. طبعا إن هذه المشكلة النظرية المزمنة عند الأحزاب والمنظمات العلمانية والعصرية والتحديثية ليست ناتجة عن عدم فهم الكتب فقط، بل عن عدم فهم الواقع أيضا. فالاستقطاب في بلد طائفي يتشكل سياسيا على أساس مضاد للمصالح الاجتماعية.
على رغم ذلك نرى أن هذه الأحزاب (المعاصرة) لاتزال تؤكد على القيادة التاريخية للطبقة العاملة وقدرتها على توحيد البلد، وتصنيع التغيرات والتحولات بحسب النموذج الأوروبي، وكما تصفه لنا الكتب الكلاسيكية، بينما الوقائع تؤكد أن هذه «الطبقة» غير موجودة، وإذا وجدت كانت هزيلة أو منقسمة إلى أديان ومذاهب وطوائف وعشائر وقبائل.
هذه المكابرة النظرية «الحداثية» لا تساعد على الجمود والانعزال فقط، بل تجلب الويلات والكوارث على الكثير من الفئات المنضوية في إطار الأحزاب والمنظمات، عدا عن كونها جلبت الكثير من الكوارث والويلات على الكتل الشعبية والتيارات الدينية المتماسكة تاريخيا.
لعل الوهم الرئيسي الذي تقع تحت تأثيره هذه التيارات والاتجاهات الحزبية العلمانية والعصرية والحديثة هو أنها تقوم بفرز المجتمعات العربية والإسلامية على أساس آيديولوجي لا يمت بصلة إلى التاريخ الاجتماعي والواقع الفعلي. وعملية الفرز الآيديولوجي تؤدي بالأحزاب إلى فهم خاطئ لمسألة الأكثرية والأقلية في مختلف البلدان التابعة لسيطرة الأجنبي أو الملحقة بشبكة العلاقات الرأسمالية العالمية.
على قاعدة هذا التقسيم الآيديولوجي - الوهمي تقوم النظريات السياسية التي تعتبر أن هذه البلدان تشهد حالة من الانقسام القاطع والثابت بين الأكثرية العمالية والأقلية البورجوازية، كما هو حاصل وبحدود نسبية في البلدان الأوروبية. وانطلاقا من هذا الفهم «الواقف على رأسه» لمسألة الأكثرية والأقلية فشلت الأحزاب في استيعاب خصوصية الواقع والحقائق الموضوعية المعقدة، ما أدى إلى سقوطها في الأوهام الآيديولوجية، وابتعادها عن المفصل الأساسي لحركة التاريخ في البلدان العربية والإسلامية.
شكل هذا الابتعاد النظري مع الأيام نوعا من العجز الموضوعي الذي منع فعلا إمكان تحول الأحزاب من حركة «أقليات سياسية» داخل الأقليات الطائفية والإثنية (الاقوامية) إلى حركة «الأكثرية السياسية» داخل الأكثرية الشعبية التي تقوم رابطتها التاريخية على أساس الدين الإسلامي. هذا العجز النظري يبدو وكأنه تحول إلى معضلة سياسية من الصعب تجاوزها قبل حصول تغيرات فعلية على أرض الواقع، وفي الوقت الذي تتبلور فيه التيارات الدينية في اتجاهات سياسية متماسكة تواجه بها «الأجنبي» والنخب الحديثة في كل مناطق انتشاره.
المسألة التي تقف عندها الأحزاب اليسارية وتخاف التيارات العلمانية والعصرية من «التلوث» بها هي تحديدا المسألة التي تشكل عصب الصراع ضد الغرب وسيطرة الأجنبي، كما أنها تشكل المفصل الذي يمسك بشدة بزمام التاريخ في المنطقة. لذلك تتخوف كل هذه الاتجاهات التحديثية من التعاطي مع هذه المسألة، وتحجم عن إيقاف موضوع الأكثرية والأقلية على قدميه، وبالتالي إيقاف النظرية على قدميها.
عند قراءة أدبيات هذه الاتجاهات (اليسارية) نجد بالملموس ارتباكا نظريا وحالة من التناقض بين المقدمات والنتائج. فالأدبيات تشدد في مقدمتها على ميوعة الطبقات الاجتماعية، وعدم ثبات مواقعها الإنتاجية، وكثرة النزوح والانتقال السريع لدى الفئات العمالية والكادحة من طبقة إلى طبقة، وتأتي النتائج لتعاكس أفكارها العامة وتطرح البرامج السياسية على أساس توقعات وأوهام خاطئة لا تتناسب مع اعترافاتها السابقة. فالمقدمة النظرية تقول إن الطبقة العاملة مائعة اجتماعيا واقتصاديا، والنتيجة السياسية تقول إن الطبقة العاملة تقع عليها مهمات قيادة التحول والتحرر والتغيير.
كل هذه التلوينات النظرية والسياسية التي تبتكرها الاتجاهات والتيارات العلمانية والعصرية ليست مصادفة ولا عفوية، بل إنها تؤكد ارتباكها وخوفها من إعلان الحقيقة التي نعيشها في المرحلة الراهنة. وأساس كل هذه التلوينات يقوم في الدرجة الرئيسية على عدم الاعتراف بأن الواقع الأكثري لهذه المنطقة واقع إسلامي، وبالتالي فإن القيادة السياسية للأحزاب لا بد أن تتصالح مع الإسلام. فالمصالحة يمكن أن تنتج قيادة تقع عليها مهمات قيادة التحول والتحرر.
عدم الاعتراف هذا ناجم بالأصل عن التكوين التاريخي والفكري لمختلف الأحزاب والمنظمات السياسية (اليسارية والعلمانية)، وهو تكوين يمت بصلة إلى الأقليات الطائفية والإثنية. لذلك تجد هذه الاتجاهات والتيارات أن قوتها واقعة بين ضغطين: الأول أصلها الاجتماعي والأقلاوي وامتداده إلى المرحلة الراهنة، والثاني واقع الأكثرية التي تسود المنطقة وتشكل ثقلا رئيسيا في قواعدها.
بفضل الضغوط المتبادلة شهدت الأحزاب والمنظمات «اليسارية» حالة من الجمود والتفكك، فهي لا تستطيع أن تتبنى «الأقليات» بالكامل؛ لأن ذلك سيجرها إلى القول بأن للأقليات «قضية خاصة ومستقلة»، وبالتالي سيؤدي بها هذا المنطق إلى تبرير الحمايات الأجنبية والضمانات الغربية... وهذا ما لا تقوى على فعله، أو لا تتجرأ عليه. كما أنها لا تستطيع أن تتبنى «الأكثرية»؛ لأنها مضطرة إلى إدخال تعديلات في برامجها السياسية، وتكييف نظريتها بحسب الواقع، وبالتالي سيؤدي بها هذا النهج إلى الاعتراف بأن مفتاح مختلف القضايا موجود بقبضة الأكثرية الإسلامية في المنطقة التي من خلالها يمكن قراءة المشكلات الأخرى كافة، وفي طليعتها مسألة الديمقراطية، وحقوق الأقليات، وعمليات اندماجها أو إدماجها بالوحدة العامة للبلدان الإسلامية.
إن هذا المأزق السياسي ليس نتاج أزمة الفكر والقيادة فقط، بل يجد تفسيره المادي في شروط التشكل التاريخي للمنطقة الإسلامية، وخصوصية هذه المنطقة، وتمايزها عن شروط التطور التاريخي للبلدان الأوروبية. لذلك فالانتفاضات التي شهدتها المنطقة في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي (أفغانستان وإيران) التي عبرت عن نفسها في أشكال من المقاومة السلبية، وأخذت تتشكل في تيارات سياسية قائمة على كتل شعبية (قبائل، طوائف، أقاليم، أقوام) وليس طبقات اجتماعية محددة المواصفات الاقتصادية ما هي إلا إحدى إفرازات الواقع المادي والحركة التاريخية المتمثلة في خصوصية مناطقنا وتمايزها عن النموذج الأوروبي. وهنا تحديدا تبدأ مهمة وعي هذه الخصوصية، واكتشاف قوانينها المطابقة للواقع لا للآيديولوجية. ولاشك في أن هذه المهمة طويلة وشاقة، ولكن لا بأس أن نبدأ من الآن.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2177 - الخميس 21 أغسطس 2008م الموافق 18 شعبان 1429هـ