العدد 2176 - الأربعاء 20 أغسطس 2008م الموافق 17 شعبان 1429هـ

واشنطن... والبديل الباكستاني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أعطت الزيارة السريعة التي قام بها قائد الجيش الباكستاني الجنرال إشفاق كياني إلى كابول بعد يوم من إعلان الرئيس برويز مشرّف تقديم استقالته إشارات ضوئية أوضحت الكثير من خفايا الصورة وزواياها. فالزيارة كما يبدو كانت مُبرمجة مُسبقا وانتظرت اللحظة المناسبة للإعلان عنها. ومجرد قيام قائد الجيش الباكستاني بالزيارة تاركا صديقه المستقيل يتخبّط وحيدا في إسلام آباد تعتبر خطوة تحاول تصحيح علاقات دخلت منذ العام 2006 في حالات من الاضطراب مع كابول وواشنطن.

توقيت الزيارة أعطى ذاك المؤشر المطلوب؛ لتوضيح ذاك الغموض الذي طغى على العلاقات الباكستانية - الأميركية والباكستانية - الأفغانية. فالتوقيت تصادف مع إعلان خطة عسكرية أميركية - بريطانية عن البدء في حملات تستهدف توسيع الهجوم نحو المناطق القبائلية التي تتخذ منها «طالبان» ملاجئ سياسية على الحدود الأفغانية - الباكستانية. ومشاركة الجنرال كياني في الاجتماع العسكري الذي ضم قيادات التحالف الدولي وأفغانستان وباكستان يدلّ على وجود تطوّر نوعي على صعيد العمليات المرتقبة ضد تلك القلاع العاصية. والمشاركة الباكستانية على أعلى المستويات العسكرية يعطي فكرة عن تلك المعلومات الصحافية التي تحدّثت عن فتور في العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد وتزعزع الثقة بين الرئيس مشرّف والرئيس الأفغاني حميد قرضاي. فالرئيس قرضاي أتهم مشرّف بزعزعة استقرار أفغانستان وعدم التعاون مع كابول في مطاردة خلايا «القاعدة» وملاحقة «طالبان» ومُحاصرة قلاعها وتحصيناتها في مناطق القبائل البشتونية التي تنتشر على الحدود الغربية (شرق كابول). والزيارة السريعة تريد القول إن عهد مشرّف انتهى ويمكن لكابول أنْ تعتمد الآنَ على دعم إسلام آباد ومساندتها.

زيارة قائد الجيش الباكستاني ليست عسكرية فقط، فهي أيضا توجّه رسالة تطمين للولايات المتحدة بوجود رغبة في المشاركة وتأمين الغطاء السياسي في حال قررت واشنطن البدء في هجوم بري - جوي مضاد لكسر شوكة «طالبان» وشبكاتها القبلية في منطقة بيشاور. فهذه المنطقة التي تحوّلت إلى ملاذ آمن لمقاومة الاحتلال في أفغانستان أغضبت واشنطن ودفعتها إلى اتهام مشرّف بعدم التعاون الجدي في منْع المقاتلين من التسلل أو الانسحاب أو اللجوء. وأدّى الاتهام إلى رفع درجة التوتر بين كابول وإسلام أباد التي ذهبت إلى تحميل مشرّف مسئولية الفوضى الأمنية والفشل في ضبط معاقل «طالبان» ومنعها من النمو والتمدد.

هذا الجانب السياسي - العسكري من الصورة يعطي فكرة عن الدور الأميركي في الضغط على مشرّف ودفعه إلى الاستقالة. فواشنطن التي أخذت مسافة من «صديقها المزعج» في العام 2006 بدأت بترتيب بدائل مدنية وعسكرية تمهيدا لترحيله في الوقت المناسب. والبديل الذي تستعد الولايات المتحدة لتصنيعه ليس بالضرورة أنْ يكون الرئيس المنتخب من البرلمان وإنما قائد الجيش الذي يتوقع أنْ يلعب ضابط التوازن بين الحزبين السياسيين في مجلس النواب. واستقبال كياني في كابول على جناح السرعة يؤكّد أنّ خيارات واشنطن في باكستان لاتزال تراهن على الجيش؛ لكونه يمثل مؤسسة حديثة ومتماسكة تستطيع فرض هيبتها على مجتمع تسوده الفوضى القبائلية والمناطقية والطائفية ولا تستطيع الأحزاب المدنية تطويعه تحت سقف « نظام ديمقراطي» يحترم الاختلاف والتنوّع.

مراهنة بوش

رهان إدارة بوش على مؤسسة الجيش ينطلق من ذريعتين: الأولى أنّ الخطة العسكرية التي أعلن عنها الثنائي الأميركي - البريطاني في كابول تحتاج إلى مساندة ميدانية لا تقوى الأحزاب السياسية على تقديمها. والثانية أنّ المعركة في باكستان - أفغانستان ليست معركة تنمية وإصلاح وتحديث وتمكين المرأة وتعزيز الحرية وبناء الديمقراطية وإنما محاربة التطرّف والإرهاب وملاحقة خلايا «القاعدة» ومطاردة «طالبان» ومحاصرة قلاعها.

هذه المهمّة المزدوجة التي تعوّل إدارة بوش على نجاحها في الشهور الأخيرة من العهد الجمهوري تحتاج إلى فريق عمل متعاون لا يكترث إلى الشارع السياسي أو الجمهور الانتخابي. وبما أنّ الجيش الباكستاني هو المؤسسة الوحيدة التي تتمتع بهذه المواصفات فمعنى ذلك أنّ واشنطن قررت هوية البديل بعد أنْ استغنت عن خدمات رجل اتهمته بالتردد وعدم الحسم.

هناك توقعات غير منتظرة ستواجه جبهة «طالبان» و«القاعدة» التي أعربت عن فرحتها باستقالة مشرّف. كذلك هناك منعطفات عسكرية وميدانية قد تفسد السعادة التي عبّرت عنها شوارع المدن وأعضاء مجلس النوّاب حين قرر مشرّف الاستقالة. التوقعات والمنعطفات تشيران إلى أنّ واشنطن ليست جاهزة بعد للقبول بنظام مدني يعطل التنسيق المطلوب عسكريا بين قوّات التحالف في أفغانستان والجيش في باكستان؛ لتنفيذ خطة الهجوم التي اتفق على خطوطها العريضة في اللقاء الثلاثي الذي عقد أمس الأوّل في كابول.

هناك إذا ضحايا غير مرتقبة ستظهر على الشاشة الباكستانية بعد غياب مشرّف عن الساحة. الضحايا الأولى ستبدأ ميدانيا في العمليات المشتركة على الحدود الثنائية الممتدة على خط كابول - بيشاور، ستعقبها ضحايا الأحزاب المدنية بعد أنْ يكون قائد الجيش قد رسخ صورته وأظهر قوته وحنكته.

واشنطن كما ظهرت من خلال انفعالاتها وتعاملها مع الانتخابات البرلمانية واستقالة مشرّف، لا تبدو متعاطفة مع «ديمقراطية وهمية» لا وجود لها في أرض الواقع. فالحزب الذي يقوده زوج بينظير بوتو وابنها لا علاقة له بالشعب الواحد والجامع وإنما يمثل مصالح مجموعات من الملاكين الزراعيين (إقطاعات) في إقليم السند. والرابطة التي يقودها نوّاز شريف ليس لها علاقة بالإسلام الضامن للوحدة وإنما يمثل مصالح قوى صناعية (عائلات ثرية) تسيطر على إقليم البنجاب. وبما أنّ «حزب الشعب» هو مجرد قوة تنظيمية تدافع عن روابط تقليدية تتحكم بالملكيات الزراعية في إقليم في مقابل «رابطة إسلامية» هي مجرد واجهة تنظيمية لحماية مصالح أصحاب صناعات محلية في إقليم آخر، فمعنى ذلك أنّ الاستقرار السياسي المطلوب في باكستان لمواجهة التطوّر العسكري النوعي المرتقب حصوله قريبا على جبهة أفغانستان غير موجود ولا يمكن توافره في ظل برلمان تتجاذبه المناطق والقبائل والطوائف.

الطرف الوحيد القوي والقادر على ضبط التوازن بين الأقاليم الباكستانية ومنعها من الانزلاق السياسي نحو الفوضى الأمنية هو الجيش. ومثل هذه المؤسسة العسكرية التي تعاونت معها الولايات المتحدة مرارا باتت تحظى بثقة إدارة واشنطن؛ لكونها اعتمدت عليها في مهمّات كثيرة وفي محطات مختلفة. البديل الباكستاني الذي تراهن عليه واشنطن في المرحلة المقبلة لا بد أنْ يثبت الآن مقدرته العسكرية في الحملة الدولية ضد «الإرهاب». وهذا بالضبط ما تحتاج إليه إدارة بوش في فترة صعبة ولها تأثيرها الحسّاس على الانتخابات الرئاسية في أميركا. وفي طبيعة الحال فإن هذه المهمّة الملحة والضاغطة لا يستطيع تأمينها سوى قائد الجيش إشفاق كياني الذي توجّه بسرعة إلى كابول تاركا صديقه المستقيل مشرّف وحيدا في إسلام آباد.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2176 - الأربعاء 20 أغسطس 2008م الموافق 17 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً