ثلاث جهات أعلنت عن سعادتها بخروج برويز مشرف من الساحة السياسية الباكستانية بعد استقالته تجنبا للمساءلة النيابية.
الجهة الأولى، حركة «طالبان» المتحالفة مع تنظيم «القاعدة». فالحركة أعلنت في شقها الباكستاني (الباشتون في المناطق القبائلية) الواقع على الحدود الأفغانية عن وقف النار من طرف واحد تعبيرا عن فرحتها بسقوط عدوها مشرف الذي قاد عليها حملة عسكرية بالتعاون مع الاحتلال الأميركي طوال سنوات امتدت من نهاية العام 2001.
الجهة الثانية، تحالف زعماء المعارضة الذي يسيطر على مقاعد المجلس النيابي. فالتحالف الذي يعتمد الآن على قوة ثنائية تتمثل في «الرابطة الإسلامية» التي يقودها نواز شريف و «حزب الشعب» الذي يقوده زوج بينظير بوتو (آصف زرداري) وابنها أعرب عن بهجته بخروج المنافس الرئيسي الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري قاده ضد شريف في العام 1999.
الجهة الثالثة، الإدارة الأميركية وتحديدا رئيسها جورج بوش الذي انقلب على مشرف في العام 2006 على إثر صدور مذكرات الرئيس الباكستاني وكشف فيها تلك الضغوط التي تعرض إليها والتهديدات التي واجهها في حال لم يوافق على الانخراط في معركة الولايات المتحدة ضد «طالبان». مذكرات مشرف صدرت في وقت غير مناسب وأحرجت إدارة فاشلة وكشفت الكثير من الأسرار التي وضعت بوش في موقع صعب دفعته للرد وتوضيح بعض الألغاز السياسية.
مذكرات مشرف لم تكن السبب الوحيد بل شكلت تلك النقطة التي فاضت بها الكأس. فالإدارة كانت بدأت قبل فترة بشن حملة سياسية ضد مشرف «الصديق الصعب» و «الحليف المحرج» لأنه استخدم المساعدات المالية والعسكرية الأميركية لتطوير البرنامج النووي - الصاروخي الباكستاني بدلا من تعزيز الجيش وتدريبه لمحاربة «الإرهاب». وبسبب احتياله أدى الأمر إلى انتقال «طالبان» إلى باكستان ما عزز الفوضى وزعزع الأمن ورفع من درجة مخاوف احتمال سقوط «القنابل النووية» في قبضة الجماعات المتطرفة.
الغضب الأميركي من مشرف لعب دوره في إضعاف سلطته خصوصا بعد استقالته من منصب قائد الجيش في نوفمبر/ تشرين الثاني 2007. فالابتعاد عن المؤسسة العسكرية جعل من مشرف ذاك الهدف السهل من جانب خصومه السياسيين (أحزاب المعارضة) والجماعات القبلية والمنظمات المتطرفة وحركة «طالبان».
جاءت الاستقالة من قيادة الجيش لتزيد من عزلة مشرف الذي بات يتعرض لضغوط من جهات ثلاثة (طالبان، أحزاب المعارضة، والإدارة الأميركية) من دون وجود قوة منظمة تضمن له الحماية كما كان أمره منذ وصوله للسلطة. وبسبب العزلة اضطر مشرف إلى تقديم تنازلات بهدف كسب الوقت وتفكيك وحدة المعارضة ومنع «طالبان» من الضغط عليه قبائليا في منطقة الحدود الأفغانية. إلا أن حسابات مشرف انقلبت عليه بعد اغتيال بينظير بوتو في ديسمبر/ كانون الأول 2007 وفوز المعارضة بغالبية كاسحة في انتخابات فبراير/ شباط 2008 ما أعطاها قوة تقريرية وصلاحيات استثنائية في إدارة السلطة التشريعية.
خسر مشرف الغطاء الإسلامي (الشارع السياسي) والغطاء العسكري (الجيش) وأخيرا كشفت واشنطن عن قناعها وأبدت رغبتها في رحيل صديقها المزعج بعد أن تبيّن لإدارتها دوره في توظيف المساعدات المالية واستثمارها في قطاعات تعزز الصناعات العسكرية ولا تساعد على قضم مناطق «طالبان» وملاحقة خلايا «القاعدة» التي انتشرت وامتدت من أفغانستان إلى باكستان.
ماذا بعد الاستقالة؟
الآن وبعد غياب مشرف عن الشاشة السياسية، كيف يمكن توقع مستقبل باكستان التي تواجه خطر تفكك الكيان وتقويض الدولة؟ الإدارة الأميركية تراهن على المؤسسة العسكرية لا على الأحزاب المدنية. فالمعارضة التي توحدت ضد مشرف منقسمة على مجموعات أهلية/ مناطقية ويرجح أن تدخل في تجاذبات سياسية لوراثة السلطة ولن تكون في موقع يسمح لها بمواجهة تمدد «طالبان» إلى مناطق القبائل أو محاربة ما تسميه واشنطن بالخطر الإرهابي واحتمال استيلاء خلايا «القاعدة» على قنابل نووية. وبسبب وضع المعارضة المدنية البائس يرجح أن تستعيد واشنطن ذاك التحالف مع الجيش الباكستاني باتجاه تعزيز التعاون لمواجهة الفوضى الأمنية التي تهدد القوات الأميركية - الدولية في أفغانستان وعلى الحدود الغربية لباكستان.
مقابل تطوير واشنطن تحالفها مع الجيش الباكستاني وتحسين علاقات إسلام آباد بكابول بهدف شن حملة ثنائية مشتركة لتقويض معاقل «طالبان» في منطقة القبائل ستترك للمعارضة المدنية ذاك الهامش السياسي لإلهاء الشارع الغاضب بالصراع على وراثة السلطة ومحاسبة الحكم السابق.
علامات الفرح والسعادة والابتهاج التي عبرت عنها الجهات الثلاث بمناسبة إعلان مشرف عن استقالته لن تستمر طويلا. فالولايات المتحدة أعطت الإشارة الخضراء بإزاحة صديقها «غير الوفي» بعد أن استغل حاجتها لباكستان للتخلص من حكم «طالبان» التي اتهمت بأنها تقف وراء هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. فمشرف أنقذ البرنامج النووي - الصاروخي من الانهيار بعد أن وافق على تقديم المساعدة الميدانية (المخابراتية) مقابل مساعدات مالية وعسكرية كانت واشنطن أوقفتها رسميا عن إسلام آباد في العام 1994.
حاجة الولايات المتحدة لموقع باكستان الجغرافي وما تملكه المؤسسة العسكرية من معلومات مخابراتية عن «القاعدة» و «طالبان» ودورها في تشكيل ذاك التوازن القبلي في أفغانستان، دفعت إدارة بوش إلى كسر قرار الحظر وفتح المجال للتسلح والتجهيز التقني ما أعطى فرصة لمشرف (رئيس الدولة وقائد الجيش) لإعادة بناء الترسانة النووية وتحديث البرنامج الصاروخي. ولكن الحاجة إلى باكستان في العام 2001 أخذت تتراجع في العام 2006 حين اكتشفت واشنطن أن مشرف لم يكن في موقع الطرف المسئول والقادر على حماية قوات التحالف التي تحتل أفغانستان.
مشكلة أفغانستان (مكافحة طالبان ومحاربة القاعدة) ليست النقطة الوحيدة التي أدت إلى انقطاع حبال الود بين إسلام آباد وواشنطن. فهناك الكثير من العناصر الموروثة عن عهود سابقة رفض مشرف تلبيتها بالسرعة المطلوبة، منها وضع البرنامج الصاروخي والمشروع النووي تحت رقابة دولية، وإلغاء الاستفتاء الشعبي الذي أجراه الجنرال ضياء الحق لتبني الشريعة الإسلامية قاعدة للدستور في العام 1984، والاعتراف بـ «إسرائيل» التي نجحت في تحسين علاقاتها بالهند وتطويرها على مستويات مختلفة ولم تحصل عليه من طرف محسوب على المعسكر الأميركي.
كل هذه العناصر الموروثة استخدمتها واشنطن سابقا ضد سلطة ضياء الحق، وضد بينظير بوتو، ثم ضد نواز شريف وأخيرا مشرف. فالكل أصدقاء الولايات المتحدة، والكل حلفاء اضطراريون للسياسة الأميركية... ولكن كل السلطات غير قادرة على تلبية مطالب واشنطن ورغباتها في الإقلاع عن تنمية عناصر تشكل تقليديا وحدة سياسية تضمن هوية باكستان واستقرارها وتطورها.
هل تستطيع واشنطن الوصول إلى تلك الأهداف بعد غياب مشرف عن الشاشة السياسية الباكستانية؟ الاحتمالات ضعيفة؛ لأن السلطة (مهما كان نوعها) لا تستطيع أن تتنازل عن مواقع تضمن وحدة الكيان وتمنع تقويض الدولة. فالإسلام يشكل ذاك الإطار الذي يحصن الهوية من التفكك القبلي - المناطقي (السند، البنجاب، البلوش، البشتون). والجيش يعتبر تقليديا تلك المؤسسة المنظمة والحديثة التي تترفع عن مشاهد الانزلاق نحو حروب المناطق والطوائف والمذاهب المتنقلة بين المدن والأقاليم وبالتالي فهو يلعب دور الحامي الشرعي للدولة.
إذا كانت الاحتمالات ضعيفة من الجانب الباكستاني فهل تتجه الولايات المتحدة إلى ممارسة سياسة الضغط من جانبها لتنفيذ مشروعها القاضي بوضع البرنامج النووي - الصاروخي تحت رقابة دولية (بذريعة حمايته من التطرف والإرهاب) وإلغاء سياسة الأخذ بالشريعة الإسلامية والدفع نحو الاعتراف بـ «إسرائيل»؟ حتى الآن لم تكشف واشنطن عن قناعها إلا تلك الإشارات المتصلة بضعف مشرف وعدم تجاوبه السريع والقوي في محاربة «طالبان» و «القاعدة».
هذا الجانب المعلن لا يعطي صورة حقيقية عن تلك الزوايا غير المرئية في الطلبات الأميركية التي كشف مشرف في مذكراته عن بعض خطوطها وخيوطها. وفي حال قررت الولايات المتحدة السير في هذا الاتجاه في الشهور الأخيرة من عهد بوش فإنه يمكن القول إن باكستان (الدولة والكيان) باتت في موقع صعب ولا يستبعد أن تندلع فيها الكثير من مشاهد العنف التي تعطي ذريعة لوضع البرنامج النووي - الصاروخي تحت إشراف أميركي ورقابة دولية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2175 - الثلثاء 19 أغسطس 2008م الموافق 16 شعبان 1429هـ