تعاني غالبية وزارات القطاع العام من أمراض إدارية واجتماعية، بل إن إدارات وأقساما مهمة وحساسة في بعض الوزارات لاتزال تفتقر لأبسط فنون التعامل مع الزبائن والعناية بهم.
من التشخيص يتضح أن ليس من السهولة بمكان استئصال تلك الأمراض أو القضاء عليها، بل من الصعب جدا ترميمها؛ ذلك أنها ترسبت فيها وأصبحت أساسا لا غنى عنه، وبات التعامل معها وفق تلك الأمراض غاية في الصعوبة؛ لأن المراجع أحيانا يفقد فيها احترامه وأحيانا كرامته.
للأسف الشديد البعض حينما يعمل في وزارة من الوزارات ويكون له منصب مرموق يتصرف كالأطفال تماما. فمنطلقاته لا تختلف عنهم بالمرة. فنجده يتعامل مع الوزارة التي يعمل فيها كأنها وزارته وملكه الخاص يتعامل فيها ومعها تماما مثل ما يتعامل مع بيته ومثل ما يتعامل الطفل الصغير مع أي لعبة يحبها سواء ملكه أو لا، مع الفارق الكبير. وهذا بحد ذاته مرض عضال ومبتلون منه وعلينا معالجته والتخلص منه ولن يكون ذلك إلا إذا ذهبنا إلى الطبيب واعترفنا له بالمرض ووصفنا تاريخه له بكل دقة؛ حتى نحصل على الدواء المناسب.
المرض الآخر يتمثل في كون البعض يترفع على المواطنين والمراجعين؛ بسبب موقعه الوظيفي أيضا ناسيا أو متناسيا أنه موجود في هذا الموقع تحديدا بهدف تقديم شتى أنواع الخدمات للمواطنين لا بغرض التعالي والمفخرة عليهم. ألا يعد ذلك مرضا من الأمراض التي نعاني منها؟
مرض آخر نعاني منه ومصاب به البعض ومن أعراضه التلذذ والتفنن في إيذاء الآخرين وأقصد بذلك المراجعين أصحاب الطلبات والمعاملات، وهنا الكثير من القصص والحكايات ولست بصدد سردها ولكن سأذكر واحدة منها على سبيل المثال لا الحصر: أحد المراجعين لإحدى الوزارات الخدمية الكبرى يقول إنه في إحدى المرات كان يراجع معاملاته التي تعطلت كثيرا وبات وضعها كالكرة تحذف في كل جهة وصوب، حيث مرض التنصل من المسئوليات وعدم الاكتراث - طبعا وبلا تعليق - عيب وخطأ كبيران يتم التعامل بهما مع المراجع بالأسلوب المرضي، ومن العمل المشين أن يتصرف موظف ناضج بهذا التصرف غير المسئول.
وعندما انزعج المراجع من النظام المتبع قرر حينها أن يرجع إلى المسئول لسببين اثنين: بغرض إنهاء معاملاته والحصول على الدعم اللازم وكان حينها واثقا بالحل الذي ارتضاه، والسبب الآخر بغرض تقديم شكوى ضد هؤلاء الموظفين الذين لا يستحقون تلك الوظائف؛ لكونهم لا يقدرونها وكان واثقا أيضا بأن المسئول سيكون له موقف مسئول ويتعاطى مع الأمر بجدية تامة، وخصوصا أن المراجع هذه المرة ليس موظفا عاديا وإنما مديرا لإحدى المؤسسات المعروفة.
النتيجة كانت مذهلة للغاية؛ لأنه لم يحقق الأهداف من جهة، بل كانت ردة الفعل قوية جدا، ومتأكدة أن تلك الفعلة حدثت للمئات من المراجعين. هل تتوقعون ماذا حصل؟ ما حصل مفاجأة للجميع وقمة المرض الإداري الذي ينخر للأسف الشديد في بعض وزاراتنا. الذي حدث أن المسئول صرخ في وجه المراجع بحجة انشغاله وانغماسه في العمل، لا بل طرده من مكتبه بصورة بشعة جدا، ورفض استقبالة أو الاستماع إليه!
يا جماعة الخير هل المراجع مثلا يطلب من المسئول أو من الموظفين الآخرين غير العمل؟ ثم هناك مئات الطرق والأساليب الذوقية التي من خلالها يستطيع المرء إيصال الرسالة إلى المراجع وبمنتهى الأدب والاحترام. لماذا مثلا نضطر إلى استخدام الأساليب غير اللائقة ونقدمها على غيرها من الأساليب التي لا حصر لها؟ هل يطيب لنا أن نهجر الذوق ونلتزم غيره من الأساليب؟ أم أن المرض استفحل فينا؟
ثم نتساءل لماذا تظل الأمراض الإدارية والاجتماعية بل النفسية سيدة الموقف في الكثير من المعاملات؟ فهل تلك الأمراض على سبيل المثال أحد أسباب وعوامل تقدمنا لكي نتمسك بها؟ أم أنها سبب من أسباب تأخرنا وتخلفنا؟
إذا كنا نؤمن بأهميتها في تيسير أمور العمل؛ لكونها الأفضل فلماذا لم يتم الاعتماد عليها في مؤسسات القطاع الخاص التي تتعامل مع الزبون معاملة خاصة كأنها تؤمن بنظرية الزبون، على حين غالبية الوزارات - ولاسيما الخدمية منها التي تتعامل مع المراجعين معاملة مباشرة - تتعامل مع الزبائن والمراجعين بخلاف نظرية الزبون. ألا يعتبر المراجع زبونا لديهم؟
أحيانا نقول: إذا كان المسئولون أنفسهم لا يكترثون بالزبون ولا يعيرونه تهتماما، ولا يهمهم ويخطئون معه أخطاء كبيرة لا تغتفر، فكيف للموظف العادي أن تتوافر فيه تلك الخصال والطباع؟
اليوم وللأسف الشديد لايزال البعض ينظر إلى الزبون كأنه متسول يتسول منه خدمة بغرض إنجاز معاملته، ويتم التعامل معه تماما كالمتسول «فلا شيء يلزمني أن أقدم له المساعدة أو الاحسان ذلك كله يعتمد على مزاجي وكرمي وظروفي»، بل إن البعض يضطر إلى دفع المتسول أو زجره، وفي بعض الوزارات يحدث ذلك أيضا مع المراجعين.
في النهاية نتساءل: كيف لنا أن نحقق التنمية، إذا كانت الأمراض الإدارية تنخر فينا ونحن مبتلون بها سواء عند قاعدة الهرم الوظيفي متمثلة في الموظفين أو في قمة الهرم متمثلة في المسئولين، والكل يعاني دون أن ننشد العلاج الذي من شأنه أن يغير سوء الحال إلى حال أحسن منه بالتدريب والتوعية وغيرها من أساليب أثبتت قدرتها على التغيير والتطوير؟
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2175 - الثلثاء 19 أغسطس 2008م الموافق 16 شعبان 1429هـ