بدأت أمس القوات الروسية بالانسحاب من المناطق الجورجية التي اخترقتها عسكريا بعد 8 أغسطس/ آب الجاري. وجاء الانسحاب تنفيذا للاتفاق الذي أبرمته موسكو مع الاتحاد الأوروبي ووافقت عليه الولايات المتحدة وتبليسي.
التفاهم يقضي بالانسحاب إلى ما كان عليه الوضع في السابق، ولكن الرئيس الجورجي يطالب بالمزيد. والمزيد برأيه يشمل كل جورجيا بما فيها تلك الأقاليم المتنازع عليها، وهذا ما ترفضه روسيا. والاختلاف على تعيين الحدود الجغرافية لدولة جورجيا يرجح أن يشكل نقطة تجاذب دولية سيتحمل مجلس الأمن مهمة حلها. موسكو ترفض الانسحاب الشامل وترى أن حدودها مهددة بالاختراق. وتبليسي تضغط باتجاه توظيف الدعم الأميركي لتحقيق مكاسب سياسية في وقت تلقت فيه ضربة عسكرية جزئية كادت أن تطيح بالنظام لو لم يتدخل الاتحاد الأوروبي قبل لحظات من الانهيار.
هذه النتيجة الميدانية التي أسفرت عنها معركة جورجيا أصبحت تتحرك بين حائطين: الأول، روسيا انتصرت عسكريا وتحاول الآن توظيف ذاك الفوز الجزئي لتسجيل مكاسب سياسية جزئية. والثاني، جورجيا انهزمت عسكريا وتحاول الاستفادة من الغطاء الأوروبي والدعم الأميركي للتخفيف من الخسائر وتحصيل أكبر قدر ممكن من الضمانات الدولية بما فيها «حق» الانضمام إلى الحلف الأطلسي (الناتو) كما أشارت المستشارة الألمانية إلى ذلك.
الفوز العسكري الروسي الجزئي في جورجيا بدأ يتعرض بعد مرور أسبوع عليه إلى هجوم أميركي - أوروبي معاكس للتقليل من مكاسبه والحد من تداعياته. وهذا الهجوم الذي اقتصر على دبلوماسية احتواء الضربة الأولى استهدف استيعاب عنف الرد العسكري وتوقيفه عند حدود معينة ثم البدء بالانتقال نحو الرد عليه سياسيا. والرد السياسي الأميركي - الأوروبي بدأ يتجلى في استمرار مشروع نشر درع الصواريخ في بولندا وتشيخيا، والتأكيد على وحدة أراضي جورجيا، وعدم التفريط بإقليم أوسيتيا الجنوبية ومنطقة أبخازيا، والتهديد بتوسيع مظلة الأطلسي لتشمل تلك الدول المتاخمة للحدود الروسية الغربية والجنوبية الغربية.
الهجوم السياسي الأميركي - الأوروبي المضاد يرجح أن يخلط الأوراق في القوقاز ويشكل نقطة توازن سلبية بين قوة عسكرية ضخمة محاصرة دبلوماسيا ومناورة تقودها فرنسا تريد تسجيل مكاسب من دون إثارة فوضى في العلاقات الدولية. وهذا التوازن يحتاج إلى توافقات بين دول مجلس الأمن تنتهي إلى إصدار مشروع قرار يضبط في فقراته حدود المصالح وموقع القوى في عملية توزيع الحصص والأدوار. والمشروع حتى يتحول إلى صيغة عملية للتفاهم الدولي يحتاج إلى عدم استخدام موسكو حق النقض (الفيتو). فهل يوافق الكرملين على الانسحاب الكلي من جورجيا ويترك مواقعه المستهدفة أميركيا لتكون نقاط انطلاق وممرات عبور للعبث بأمنه القومي ومجاله الحيوي؟ المؤشرات تتجه إلى التأكيد على أن موسكو غير مستعدة للتنازل سياسيا عن مواقع اكتسبتها من خلال استخدام القوة أو بسبب الضمانات التقليدية للجماعات الأهلية المتحالفة معها. وبين التقدم السياسي (الأميركي - الأوروبي) والتراجع العسكري (الروسي) تبدو آفاق حل الأزمة الجورجية بعيدة نسبيا وتحتاج إلى أطوار من المعالجات حتى تتوصل القوى إلى التفاهم على صيغة عملية تمنع انزلاق منطقة القوقاز إلى مزيد من التدهور.
وضع روسيا الآن وبعد تجميد الهجوم العسكري يعاني من مأزق. فهي الطرف الأقوى عسكريا في معادلة القوقاز وهي القوة الأضعف في معادلة الحل السياسي لأزمة جورجيا. وبين الغلبة العسكرية وعدم القدرة على استثمارها سياسيا يرجح أن تتجه الأمور نحو تسوية تعطي موسكو حصة أقل مما كانت تتوقعه. والحصة التي يطلبها الكرملين عادلة من وجهة نظره، لأنها تتكفل بضمان عدم التمدد الأطلسي إلى جواره الجغرافي. وهذا المطلب المشروع دوليا تبدو الولايات المتحدة غير مستعدة لتقديمه من دون ثمن أو مقايضة.
الثمن المقابل
ما هو المقابل الذي تطمح واشنطن إلى تمريره من دون كلفة سياسية؟ حتى الآن تبدو الدبلوماسية الأميركية تنشط في المجال الأوروبي ولا تتعداه إلى دوائر وملفات أخرى. فالإدارة الأميركية استغلت مخاوف دول أوروبا الشرقية من نمو قوة روسيا العسكرية لتطوير هجومها السياسي واحتواء التداعيات المحتملة عن هزيمة جورجيا من خلال إعادة تسويق مشروع الدرع الصاروخي وإقناع بولندا بالدخول تحت المظلة الأطلسية إلى جانب تشيخيا. ونجاح أميركا في تسجيل نقطة سياسية لمصلحة مشروعها الصاروخي يشكل بالنسبة إلى إدارة فاشلة ومضطربة وتستعد للمغادرة خطوة متقدمة في إطار تجميل هيبة دولة تعرضت للبهدلة والاهانات والصفعات في أكثر من مكان.
السؤال، هل تكتفي واشنطن بهذا القدر من المكاسب السياسية الجزئية في إطار نشر مشروعها الصاروخي، أم أنها تتجه دبلوماسيا نحو البناء عليه وتطويره باتجاهات أبعد جغرافيا؟ الكلام الأوروبي عن رغبة في استيعاب جورجيا وربما أوكرانيا في دائرة الحلف الأطلسي يشكل بداية تصعيد سياسي في التعامل الدبلوماسي مع روسيا. فالكلام لا يكتفي بعدم الاعتراف بالمعادلة الميدانية التي كسرتها موسكو في معركتها العسكرية في جورجيا، بل يتجه نحو تطوير الهجوم السياسي لتغيير خريطة التحالفات وتشطير مراكز القوى وإعادة توزيعها في برنامج حسابات لا يأخذ توازن المصالح وخيارات القوة في الاعتبار. وهذا الأمر إذا تطور سلبيا يمكن أن يؤدي إلى فتح النار وتجديد المواجهة ميدانيا. أما إذا تطورت المسألة إيجابيا وأسقطت أوروبا وأميركا من حساباتها إدخال جورجيا وأوكرانيا في الحلف الأطلسي فيرجح أن توافق موسكو على تسوية تعزز نفوذها في القوقاز وتقضم مواقعها التقليدية في أوروبا الشرقية.
بولندا وتشيخيا والمجر وبلغاريا وغيرها من الدول كانت جزءا من المعسكر الاشتراكي (حلف وارسو) وهي تختلف في تركيبها الأهلي وتكوينها السياسي ومواقعها الجغرافية عن جورجيا وأوكرانيا وبيلاروسيا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي وتشكل تقليديا تلك الدائرة الحيوية للتمدد الروسي التاريخي. والاختلاف في طبيعة العلاقات الجغرافية - السياسية بين الكتلتين يمكن أن يتحول إلى قاعدة تسوية دولية تعترف بموجبها أوروبا وأميركا بموقع روسيا ونفوذها في دائرة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، مقابل أن تعترف روسيا من جانبها بالتخلي عن دورها السابق في دائرة ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية (أوروبا الشرقية).
هذه التسوية تبدو معقولة من خلال استقراء التوازنات التي أسفرت عنها المعادلة الجورجية وانتهت بفوز عسكري روسي مقابل هجوم استيعابي سياسي قادته أوروبا دبلوماسيا وتحاول الإدارة الأميركية استثماره لتسويق مشروع درع الصواريخ في أوروبا الشرقية. فهل تكتفي واشنطن بهذا القدر من المكاسب الميدانية أم تطمع لتطوير هجومها السياسي باتجاهات جغرافية أبعد من بولندا وتشيخيا؟ الجواب يمتلكه الجانب الروسي وهو أيضا يعتمد على سؤال مضاد... هل تقبل موسكو بهذا القدر من التنازل السياسي بعد أن أظهرت مقدراتها العسكرية واستعدادها للتقدم ميدانيا وكسر معادلات كانت تشكل قوة ضغط على أمنها ومجالها الحيوي وحوضها الجغرافي وحدائقها الخلفية؟
أمس بدأت روسيا بسحب قواتها العسكرية من المناطق التي اخترقتها في جورجيا، ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تستعد للتوجه إلى وارسو (بولندا) للتوقيع على الاتفاق المبدئي بشأن نشر الصواريخ. هذا التراجع والتقدم يرسمان خريطة طريق لمعادلة دولية أخذت تتشكل صورتها الميدانية في أوروبا. وفي حال توافقت دول مجلس الأمن على ضبطها في قرار دولي يتضمن في فقراته تسوية متعادلة تحترم توازن المصالح تكون الولايات المتحدة عززت مواقعها في أوروبا ولم تخسر روسيا نفوذها في إطارها الجغرافي وربما تستعيد دورها بصفتها الشريك المقبول في ضمان الاستقرار الدولي.
أما إذا فشلت التسوية المتوازنة واتجه كل طرف نحو احتواء كل عناصر الأزمة الجورجية وتداعياتها لمصلحته فمعنى ذلك أن عاصفة القوقاز مفتوحة على أبواب مختلفة وخطيرة في أبعادها الجغرافية ومداها الحيوي... وهذا ما أشار إليه نائب رئيس هيئة الأركان الروسية أناتولي نوجوفتسين حين نبه بولندا من احتمال تعرضها لهجوم نووي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2174 - الإثنين 18 أغسطس 2008م الموافق 15 شعبان 1429هـ