التفاهم على وقف إطلاق النار بين روسيا وجورجيا برعاية أميركية - أوروبية لن ينهي الأزمة ويوقف تداعياتها على التوازنات الدولية والإقليمية في دائرة القوقاز ومحيطها الجغرافي. فالحرب سرّعت في دفع المتغيرات بقوة إلى الأمام ولكن الهدنة ستساهم في توليد ردود فعل يرجح أن تدفع العلاقات الدولية إلى الوراء. ما حصل في منطقة القوقاز يشبه ذاك الزلزال المدمر الذي تتبعه عادة هزات ارتدادية تزعزع الكثير من العمران وتوقع ضحايا شاءت المصادفة أن ينجوا من الضربة الأولى.
الضربة الأولى شارفت على الانتهاء في منطقة استراتيجية تقع على مشارف خطوط التجارة القديمة وأنابيب النفط والغاز. وهذه الدائرة التي تعتبر زاوية من زوايا منطقة أوراسيا (أوروبا - آسيا) تشكل في الجغرافيا السياسية قاعدة مهمة يمكن الانطلاق منها للإشراف على مفترقات الطرق ومنابع الثروة في بحر قزوين.
الضربة الأولى وقعت ويمكن الآن مراقبة تفاعلاتها الدولية وتداعياتها الجوارية وخصوصا في منطقة «الشرق الأوسط الكبير». دوليا أحدثت الضربة خلخلة في العلاقات الأميركية - الروسية التي بدأت منذ فترة تمر في حالات جمود وتوتر وعدم ثقة. فالولايات المتحدة أعلنت أنها لم تعد تعتبر روسيا ذاك الشريك العاقل الذي يمكن التفاهم أو التعاون معه. وهي بناء على هذا الاستنتاج أسقطت عن روسيا صفة الطرف الشريك ولم تعد مستعدة للتفاوض معه في القضايا الحساسة الأخرى؛ لكونه لم يعد في موضع المشارك في بحث الحلول للمشكلات الدولية.
روسيا ردت على الاستنتاج الأميركي بإعادة تأكيد حقوقها ومصالحها وحقها في ضمان أمن حدودها في حوضها الجغرافي ومجالها الحيوي وحدائقها الخلفية. وربطت موسكو موقفها بجملة أسباب منها أن الولايات المتحدة لم تتعامل أصلا منذ عقدين مع روسيا بصفتها تمثل ذاك الشريك المحترم في السياسة الدولية. وأعطى الكرملين أمثلة كثيرة تؤكد أن واشنطن تعاملت في الفترة الماضية مع الحلفاء من موقع قوة تملي شروطها من دون استشارة وتتصرف من دون أخذ مصالح القوى الدولية الأخرى بالاعتبار.
أميركا إذا تعتبر أنها أسقطت صفة الشريك من حساب علاقاتها الدولية مع روسيا. وروسيا اعتبرت أنها خسرت عضوية النادي الدولي قبل أن تحصل على بطاقة شرف العضوية. وبهذا المعنى تتعامل موسكو مع واشنطن كقوة مفاوضة لم تخسر شيئا، وهي لا تعير الانتباه للمقاصد البعيدة المدى التي أرادت أميركا قولها من خلال تأكيد أن الكرملين ليس شريكا ولم يعد قوة مقبولة في المشاركة لصنع السياسة الدولية.
هناك نموذج ثنائي جديد تأسس على معادلة طلاق من دون زواج. فأميركا طلقت روسيا والأخيرة اعتبرت الخطوة لا معنى لها؛ لأن الزواج أصلا لم يحصل. وبما أن روسيا تعتبر أنها استردت حقها في منطقة محرّمة دوليا على الولايات المتحدة؛ فإن أميركا أخذت ترسم مناطقَ حُمْرا تحرّم على موسكو دخولها من دون إذن مسبق. وهذا الأمر المستجد يرجح أن يفتح الملفات على طور مختلف في علاقاته الدولية وشروطه السياسية.
أوروبا والشرق الأوسط
هناك الكثير من الخطوط الحُمْر التي يمكن أن تصطنعها واشنطن لتحديد شروط الدخول إليها أو الخروج منها. أوروبا مثلا تعتبر نقطة حيوية في العلاقات الدولية وهي عموما تشكل منطقة خطرة في توازن القوة بين روسيا وأميركا. روسيا تحتاج إلى أوروبا لتعويض خسائرها في منطقة حيوية كانت تقع في دائرة مجالها الجغرافي، وهي أيضا تحتاج إلى انفتاح السوق الأوروبية لتصريف مخزونها الهائل من النفط والغاز واستخدام مردوده المالي لتحريك عجلة الإنتاج الصناعي وتطويره.
أميركا أيضا تحتاج إلى أوروبا لمجموعة عوامل منها المالي والاقتصادي (البضاعي) والاستراتيجي؛ لكون القارة تشكل تقليديا تلك النافذة التي أطلت واشنطن منها على العالم في نهاية الحرب العالمية الثانية (مشروع مارشال) واستخدمتها واسطة أمنية لتأسيس قواعد متقدمة في مواجهة «الخطر السوفياتي».
مشكلة أوروبا أنها تحتاج إلى الطرفين. فهي أمنيا مرتبطة استراتيجيا بالولايات المتحدة بصفتها الطرف الذي يمتلك قوة رادعة للصد والحماية، وهي مصلحيا ارتبطت في العقد الأخير بعلاقات اقتصادية تبادلية (مال وبضاعة مقابل الغاز والنفط) مع روسيا الاتحادية ولم تعد في موقع الطرف القادر على فك الارتباط من دون وقوع خسائر هائلة تزعزع الاستقرار.
بعد أوروبا هناك «الشرق الأوسط الكبير» أو ما يسمى شريط الأزمات الممتد من أفغانستان إلى تركيا نزولا إلى شرق البحر المتوسط وقناة السويس والبحر الأحمر. فهذه الدائرة الاستراتيجية تحيط بأهم المضائق والمعابر والممرات الجغرافية سواء تلك التي تربط البحر الأسود بالأبيض، أو الأبيض بالأحمر ومنه إلى الهند والصين، أو تلك التي تشرف على بحر قزوين وخطوط التجارة القديمة (طرق الحرير) نزولا إلى إيران ودول الخليج العربية ومضيق هرمز ومنه أيضا إلى الهند والصين.
هذه الدائرة «الشرق الأوسطية» تشكل نقطة مهمة في التوازن الدولي في حال قررت أميركا الاستمرار في سياسة المقاطعة (الطلاق الوردي) مع روسيا. كذلك موسكو لن تتردد في التحرك لضمان استقرارها الداخلي ومنع تطويقها بشريط من الدول تنتشر على طول حدودها من الشرق (غرب الصين) إلى الغرب (شرق أوروبا). والموقف التركي الذي اتجه نحو إعلان التضامن مع جورجيا يشكل إشارة مبكرة للدلالة على نوع مختلف من العلاقات الجوارية يمكن أن تؤثر سلبا على تجارة روسيا الدولية وحاجتها الاستراتيجية إلى مضائق الدردنيل والبوسفور لمرور سفنها التجارية والعسكرية.
تركيا التي سارعت إلى تأييد جورجيا وأرسلت إليها المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية تحركت بناء على دوافع مختلفة. فهي عضو في الحلف الأطلسي وتطمح للدخول في عضوية الاتحاد الأوروبي. ولكنها أيضا، وهذا هو الأهم، تحركت بناء على مخاوف أمنية وحاجتها إلى بقاء جورجيا دولة مستقلة تفصلها عن الحدود الروسية المباشرة. فجورجيا جغرافيا تشكل ذاك الفاصل السياسي وسقوطها العسكري يعني انتشار القوات الروسية على كتف حدودها الشمالية وتقدمها المائي في عمق البحر الأسود وصولا إلى شواطئ تركيا.
التحرك التركي الميداني الذي اقتصر على المساعدات الإنسانية لا يمكن عزله سياسيا عن جارها الإيراني وطموح طهران للعب دور إقليمي في منطقتي الخليج وأوراسيا. وذهاب الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى اسطنبول في لحظة المواجهة الروسية - الجورجية كان مصادفة ولكنها كانت كافية لتوجيه رسائل لافتة في رؤيتها لطبيعة التوازنات في المرحلة المقبلة وخصوصا إذا قررت واشنطن سحب قواتها من العراق. وكلام أحمدي نجاد في اسطنبول عن الشراكة الإقليمية وتعبئة الفراغ والدور المحتمل للقوى المركزية في ضبط التوازنات في فترة ما بعد الانسحاب أعطى فكرة موجزة عن الفوضى أو التداعيات التي يرجح أن ينتجها زلزال جورجيا. فالزلزال السياسي يشبه تلك الهزات الارتدادية التي تنجم من عنف الضربة الأولى. وأحيانا تولد الارتدادات هزات طفيفة توقع خسائر لا تقل في أضرارها العمرانية عن الكارثة التي أطلقها الزلزال. وهذا ما يمكن توقعه من النتائج المترتبة عن أزمة جورجيا. فالأزمة أوقفت عسكريا وتم التفاهم على وقف إطلاق النار ولكن التداعيات الارتدادية الناجمة من الضربة الأولى تحتاج إلى وقت لاحتواء سلبياتها. فهناك رد محتمل ومكانه لن يكون بعيدا عن جغرافية أوراسيا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2172 - السبت 16 أغسطس 2008م الموافق 13 شعبان 1429هـ