على رغم كل هذه الأسئلة المتصلة بالتكوين الأهلي للجماعات السياسية في المنطقة العربية - الإسلامية نرى أن بعض الأحزاب الحداثية بدأ بالتحدث عن أزمة حركة التحرر العربية بوصفها أزمة قيادة طبقية وآيديولوجية بورجوازية صغيرة. وتقترح هذه الأحزاب لتجاوز الأزمة وصفات طبية جاهزة تتمثل في قيادة طبقية من نوع جديد وآيديولوجية من خامة فكرية مختلفة. ويعتقد بعض هذه الأحزاب أنه يمكن بهذه السهولة وبكل بساطة أن نحل الأزمة ونتجاوز المأزق التاريخي، الذي وصلت إليه حركة التحرر العربية.
لكن الأزمة الأخرى التي سكت عنها بعض هذه الأحزاب المتقدمة على غيرها آيديولوجيا، تشكل فعلا عقبة أساسية في وجه كل محاولة لفهم الأزمة العامة، التي تمر بها حركة التحرر العربية. لا بل أن أزمة الأحزاب نفسها، التي تطالب بتجاوز الأزمة العامة كانت السبب الذي جعلها عاجزة وغير قادرة على القيام بالمهمات التاريخية المطلوبة منها.
بالتأكيد ليست الأزمة المطروحة بجدية على بساط البحث مجرد أزمة قيادة وفكر فقط، إنما هي في الأساس أزمة بنيوية - تاريخية تضرب جذورها في أصل التشكل الاجتماعي والسياسي لهذه الأحزاب. فالأحزاب الحداثية، التي تتنطح لحل الأزمة العامة لحركة التحرر العربية، هي بالإجمال تقريبا نتاج حركة الأقليات العربية أو غيرها من طوائف و اتنيات.
مع ذلك تتوقع قيادات أحزاب الأقليات الطائفية و الاتنية (الاقوامية) أنها تستطيع حل أزمة حركة الأكثرية الإسلامية التي تشكل موضوعيا وتاريخيا الجسم الرئيسي لحركة التحرر العربية. لذلك نرى أن الأزمة العامة ليست أزمة القيادة الراهنة فقط، بل أزمة البديل السياسي والتاريخي أيضا. والبديل الحزبي في وضعه الراهن ليس بديلا تاريخيا بالتأكيد، إنما هو مجرد «أقليات سياسية» ضمن «الأقليات الطائفية و الاتنية» لذلك سيبقى على هامش الأكثرية الإسلامية وبالتالي على هامش حركة التحرر العربية.
نأتي إلى الوضع اللبناني كمثال ساطع على هذه الأزمة المزدوجة والمركبة. لاشك في أن تجربة الحركة الوطنية اللبنانية في مراحلها الأولى تمثل نموذجا عربيا خاصا، سواء من ناحية محاولة فهم المشكلات المعقدة في تركيبة الوضع اللبناني أم من ناحية استيعاب القضايا القومية والوطنية والتعاطي المرن مع الفئات الطائفية المتعددة. ولكن على رغم ذلك بقي الكثير من الثغرات والأخطاء، التي اخترقت جسم الحركة الوطنية ما يستدعي القيام بعملية إعادة نظر شاملة لرسم صورة صحيحة عن الواقع الملموس.
أبرز القضايا، التي تعاني منها الحركة الوطنية اليوم (آنذاك)، تتمثل في فشل أحزابها الطليعية على تجاوز «نقاوة» النظرية مما سهل عملية انحرافها السياسي في الممارسة العملية. والملاحظ أن الأحزاب الطليعية لم تستطع، أو أنها ترفض تفسير تلونها الطائفي عند كل حدث قومي أو وطني. وعلى رغم النشأة المسيحية للأحزاب العلمانية، نرى أنها عادت وتلونت بالطابع الإسلامي خصوصا بعد صعود التيار الناصري - العربي، وانقسام لبنان عموديا إلى تيارين أيام حكم كميل شمعون في العام 1958. وعلى رغم كل المحاولات الإرادية والقسرية (النظرية والتنظيمية) لإقامة نوع من التوازن الطائفي وفق صيغة «الميثاق الوطني» استمرت الغلبة القاعدية الإسلامية. وعند وقوع انفجار أبريل/ نيسان 1975 بات من الصعب على هذه الأحزاب الحداثية تحقيق ذلك «الحلم الوردي» على رغم تعدد المحاولات التي ابتكرت لإيجاد نوع من التيار الوطني الديمقراطي الخاص داخل المناطق أو التجمعات المسيحية.
مع ذلك لاتزال الأحزاب الطليعية ترفض الاعتراف بهذا الواقع، وتحجم عن تفسير هذه الظاهرة أو الحالة القائمة، كما أنها ترفض أن تستخرج من تجربتها العملية ذلك القانون الخاص، الذي يحكم مجموع العلاقات الطائفية في لبنان والمنطقة، خوفا من انعكاسات هذه المحاولة على «النقاوة» النظرية القائمة في عقل القادة والمسئولين.
نتيجة هذا الاستنكاف المقصود، نلاحظ بالملموس التفاوت الحاصل بين الممارسة اليومية والوعي النظري المشدود إلى وتائر الايديولوجية. هذا التفاوت خلق مع الأيام إشكالية سياسية بسبب عدم التطابق بين المستويين النظري والنضالي. وحتى الآن، لم تنشأ محاولة جديدة لردم هذه الهوة أو التفاوت القائم حاليا على المستويين الآيديولوجي والواقعي.
إذا نظرنا اليوم (انذاك)، إلى واقع الحركة الوطنية اللبنانية نرى أن الممارسة النضالية للقواعد الحزبية متقدمة على النظرية السياسية للقيادات الحزبية، بحيث أن البرامج السياسية باتت متخلفة عن مجريات تطور الواقع، ولا تجيب عن التحديات والأسئلة، التي تفرزها الممارسة النضالية. إذ في الوقت، الذي دخلنا فيه في حرب مع «دويلة سعد حداد» ومجابهة يومية مع «إسرائيل» نرى الأحزاب الطليعية لاتزال متمسكة بشعاراتها السابقة، التي لم تعد تلبي حاجات الناس، ولا ترد على حقيقة التناقض الرئيسي، الذي يواجهونه كل يوم. وعدم تحديد التناقض الرئيسي ليس مشكلة الناس، بل مشكلة الأحزاب التي باتت ضائعة، بين التمسك بأهداب برنامج الإصلاح السياسي كأساس مرحلي لكسب مختلف الفئات وبين تنكيسه والتخلي عنه بحجة عدم تخويف «الأقلية المسيحية».
طبعا الخوف من خسارة «الأقلية المسيحية» ليس هو هاجس الأحزاب العلمانية، بل يتلخص الخوف في مشكلة طغيان «الأكثرية الإسلامية» وبالتالي انفراط عقد النخبة المثقفة والطليعية وانهيار المنطق النظري - الآيديولوجي، الذي تحرص على نقاوته بعض المنظمات العصرية.
بدل أن يقوم هذا البعض بتكييف نظريته مع خصائص الواقع، ويعمل على تجذير خطه السياسي ومنهج نضاله العام، قام بخطوات تراجعية عن قضايا عدة سبق واكتشف بالملموس هزالها في البلدان غير الأوروبية. وفي خضم هذه «المعمعة»، التي يعيشها لبنان اليوم (آنذاك)، قامت بعض الأحزاب والمنظمات اليسارية بالتذكير ببرنامجها الخاص، الذي يقوم على قيادة الطبقة العاملة اللبنانية للتغيير الشامل في البلاد انطلاقا من «وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديمقراطي». وجاء هذا التذكير بعد أن بلغ الانقسام العمودي (الطائفي) في البلد ذروته ووصل في عدة مناطق إلى حد الانشقاق والانقطاع بين طرفيه.
على رغم أن بعض الأحزاب والمنظمات يعترف أن الطبقة العاملة، في الأصل، سواء في لبنان أم المنطقة العربية، ضعيفة ومفككة، و يتركز موقعها الإنتاجي في غالبيته الساحقة في صناعات خفيفة واستهلاكية (باستثناء مصر)، ومعرض في كل لحظة للتحول أو الترجرج والتأرجح بسبب عدم ثبات المواقع الإنتاجية، نرى أنها تعاكس اعترافها النظري و تصر على تفسير حركة الواقع والتاريخ من منظار أوروبي كلاسيكي لا يمت في كثير من الحالات إلى ظروفنا وتركيبتنا بصلة فعلية. فالطبقة العاملة اللبنانية، وحتى العربية، لم تكن في الأصل نتاج تطور تاريخي مطابق للتطور الاقتصادي - الطبقي في أوروبا. والطبقة العاملة اللبنانية، وحتى العربية، لم تكن موحدة في مرحلة من المراحل، ولم تستطع أن تتوحد في إطارها السياسي والتنظيمي كما هو حاصل بحدود نسبية في أوروبا.
عدم القدرة على التوحد السياسي والتنظيمي ليس مسألة ذاتية أو لها علاقة بانتهازية القيادات والأحزاب فقط، كما تحاول أن تقول بعض المنظمات «اليسارية المتطرفة». فانتهازية القيادات والأحزاب كانت عاملا مساعدا لتكريس التفكك الموضوعي القائم أصلا في تركيبة الطبقة العاملة ومختلف الطبقات الاجتماعية في لبنان و الوطن العربي والبلدان الإسلامية، ولكن المشكلة أعمق وتتصل اجتماعيا بالتكوين التاريخي للجماعات الأهلية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2170 - الخميس 14 أغسطس 2008م الموافق 11 شعبان 1429هـ