في كل مناسبة لرحيل أحد القامات الإبداعية والفكرية السامقة عادة ما يسهدني السؤال ذاته «كيف سأرثي؟ كيف سيكون الرثاء؟ ما هو حجمه وشكله ونوعه؟ فإنني أؤمن بأن الرثاء هو قبل أن يكون قالبا بيانيا عاما يمر عبر الأقنية التنظيمية والمؤسسية بين الزملاء والرفاق، فلابد من أن يكون حصيلة معتبرة من تجربة وخبرة ذاتية ونبر علاقة وآصرة خاصة مع من ستهدى إلى روحه في عالم المابعد هذا الرثاء أو المرثية، فكيف كنت أنا والراحل الكبير الشاعر محمود درويش؟
إذا ما سئلت عن شعر درويش وعن إرثه الجليل فقد عرفته واطلعت عليه بنهم لا متناهٍ منذ أيام المراهقة، فالخاصية البديعة والآسرة التي لربما يجدها القارئ في شعر درويش هو أنه كلما ازداد قراءة وتذوقا لهذا الشعر الجميل وتأملا وتدبرا في تكويناته الجمالية وتوغل بين أعمدته وحفائره الفلسفية، إذ يتحلى كلس الرؤية الفلسفية بشهد الشعر، وكلما انمحت من أمامك آفاق الارتواء والشبع أمام هذا الشعر الكوني الفائق الإنسانية الذي لم يستمد وتتسق عناصره الوهاجة من كونية المعنى والفحوى، بل هذه الكونية مشتقة مما يبدو للعيان الحسي كما لو كان كونية اللا متناهي واللا منظور، فما أسرع ما تقرأ شعر درويش وما أسرع ألا ترتوي وأن تطلب المزيد والمزيد حتى تشتد سواعد فكرك ومخيلتك الذاهلة، وأنت من أمامك أسفار شاعر كوني تحيلك إلى أن تقرأ ذاتك كصفحة مكتظة بالمعاني البيضاء، وأن تسبر أغوارها الوحشية من جديد لتكتشف أن من بين ترابها وطينها وحشائشها هنالك ما شف ورق من أجناس بشرية وأدبية، هنالك العربي والأميركي واليهودي والأوروبي وغيرهم الكثير في هذه الحقيبة الشعرية بحجم الكون!
وإذا ما استجوبني القارئ العزيز عن علاقتي الشخصية وروابطي الخاصة بالراحل محمود درويش فسأخبره بأنها للأسف اقتصرت على لقاء يتيم في البحرين أتى كالألق المنخطف ومر بسرعة، فقد كانت المرة الأولى والأخيرة التي أشاهد فيها محمود درويش على الطبيعة، وأسمع صوته وإلقاءه المميز الذي مازال يهجس بداخلي كلما وددت أن أقرأ شعرا فيصيبني بمس من الشعر، وأتذكر حينها قامته السامقة وهو يعتذر بإجلال منيف إلى البحرين عن طول تأخر زيارته، ولكن لا أدري إن كنا قد اعتذرنا إليه أو اعتذر إليه أحدهم أو إن كان قد قبل اعتذارنا الخفي إليه عن وقاحة وقلة لياقة بعض الجمهور الذي غصت به تلك القاعة حيث أتى إلى أمسية محمود درويش الخالدة، وكأنما هو ذاهب إلى «كشتة» لا إلى رحلة إلى الذات الكونية، ولكننا وأمام حصار الرنين المزعج لأجهزة «الموبايلات» ولمستنقعات اللغو والثرثرة تلك برز لنا وجه درويش حليما باسما وتعرفنا في حينها إلى خفة دمه وحس الدعابة لديه، وهو على مشارف إلقاء قصيدة بمناسبة يوم المرأة العالمي بدأها قائلا:
«الجميلات... الجميلات هن الموبايلات»!
لو كنت أعرف أن ذلك اللقاء هو الأول والأخير لما تركت درويش في حاله، فكم نحن بحاجة إليه كي نغسل خيباتنا السياسية والآيديولوجية بماء شعره. كم نحن بحاجة إلى أن ننهل من قلبه الكوني!
وحينما صدمت بخبر وفاة الشاعر إثر خضوعه لعملية جراحية لفتح قلبه التي لطالما استبعدتها بالمرة من حدود احتمالاتي والعياذ بالله، طفر بداخلي سؤال مباغت «ومن يجرؤ على فتح قلب درويش؟» أميركا والعالم وجيوش أمهر الجراحين والتكنولوجيا لا تستطيع من دون شك، فقلب درويش يتطلب معجزة لفتحه وحرصا كبيرا على المغامرة والجرأة والاكتناه العميق لكوميديا الحياة والإنسانية وحكمتها العبثية وابتسامتها السوداء!
فرشفة واحدة من رحيق قلبه تريك كيف يتحول المناضلون والرفاق إلى خزف وفخار متكسر بلهيب السياسة ورمادها، كما أنك سترى كيف يتحول الإنسان والفرد والشعب إلى أثير عبق بمسٍ من الشعر!
درويش لم يكن يريد بحسب ما أتى في أقواله المنشورة أن يكون محصورا ومكبلا بأصفاد قضية بعينها وإن كانت هذه القضية بما بلغت من عظم وجلال بوصفها أم القضايا التاريخية والمعاصرة وهي القضية الفلسطينية، ولم يشأ أن يظل أسيرا لخطابيات السياسة وابتذالها وسرعة زوالها القشري، وكنا كقراء قد تفهمنا حالته المتحررة العصية على فهم من شاء أن يكون من قطع غيار الآيديولوجيا والسياسة، ومن استلذ العيش في القصور والثغور. درويش كان ناسكا متبتلا في ملكوت الشعر ورهبانيته!
ولعلي لم أشأ أن أتناول في هذا الرثاء المتواضع جدا بحق محمود درويش سردا مكرورا لسيرته الذاتية أو أقدم مقتطفات وباقة من قصائده الخالدة وإن كان ذلك أمرا لابد منه في النهاية، ولكنني سأعود إلى عدد قيم من مجلة «الكرمل» الثقافية التي رأس تحريرها الراحل الكبير والذي مازلت أحتفظ به، والتي بفقدها وربما توقفها شهدنا أكبر نكباتنا الثقافية المعاصرة قبل نكبة رحيل محمود درويش!
فقد استوقفتني في أحد أعدادها (الكرمل) افتتاحية رائعة، لم أتململ قط من التسلي بقراءتها وإعادة قراءتها مرات ومرات، وأخال أن درويش قد كتبها وقد جاء فيها:
«أما نحن السجناء، فقد تدربنا على مهنة الإحساس بالفرح الرخيص، كطيور الأقفاص، كلما سمح لنا بالتجول في باحة السجن، وبالتزود بحاجات تعيننا على اختبار قدرة الحياة على الانتصار، وعلى عبء انتظار الغد.
هل تعبنا؟ نعم. تعبنا من السجن، ومن الحصار، ومن الاحتلال. ولم نتعب من الأمل. لم نتعب من البحث عن زهرة خضراء، لابد أنها موجودة، مهما كانت بعيدة».
ولو قدّر لروح درويش الصائلة كالغيم الوردي حول قافية الأبدية المصلصلة أن تسمع مني رثاء ونداء، فسأقول لها بالحرف الواحد:
أنتِ يا روح محمود درويش هي الزهرة الخضراء وقد انتخبك سلطان الأحلام لتلتهبي وتهيبي بخضرتك المؤججة في مخيلة الموت!
هذا الموت، هذا المسكين الذي أراد أن ينتزع روحك فإذا به قد وجد نفسه أسيرا محاصرا من التماعات الرموز ورنين القوافي وجلجلة الحكم والمعاني في قلوب وهواجس قرائك وعشاقك حول العالم!
ارحل يا درويش مطمئنا إلى دار الخلود والأبدية وإلى مستقرك الكوني الأخير، فقد تركت لنا من شعرك/ حصانك ما يؤنسنا ويسقينا ويروينا، وأصبحت الآن يا درويش أبا راحلا وموصيا:
لماذا تركتَ الحصان وحيدا؟
- لكي يُؤنسَ البيتَ، يا ولدي،
فالبيوتُ تموت إذا غاب سُكَّانُها...
فشِعْرك هو خير سلوى ومعينٍ لنا لتدارك مصيبتنا الوجودية، وربما إن احترنا إلى من نوجه له عزاءنا فسنرسل هذا العزاء إلى «نوبل» التي فقدت شرف محمود درويش إذ الكرامة سبقت التكريم!
ولكن ماذا عن شارون الذي لطالما جاهر بحسده موهبة درويش، ولكن درويش رحل إلى قافية الأبدية وشارون بقي في قافلة الفناء!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ