العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ

تجاوز القانون يؤدي إلى الانهيار والفوضى العامة

فيلم «هي فوضى» الذي يعرض حاليا في صالات الدانة والسيف هو آخر شريط سينمائي وقعه المخرج الراحل يوسف شاهين بالاشتراك مع تلميذه وصديقه خالد يوسف.

الفيلم مقارنة بغيره من أعمال شاهين لا يعتبر مهما. فهناك الكثير من الأعمال التي قام بها شاهين خلال تجربته الطويلة والفنية منذ خمسينات القرن الماضي تحتل مراتب متقدمة على عمله الأخير.

هذه الملاحظة لا تعني أن «هي فوضى» ليس مهما. فالشريط مقارنة بغيره يعتبر أفضل الموجود لأنه على الأقل يحاول أن يقدم فكرة عن تهالك المؤسسات الرسمية في مصر بأسلوب رمزي اشتهر به شاهين في أعماله. فالرمزية لا تعني المبالغة وإنما محاولة لمقاربة المشكلة والتنبيه من استفحالها في حال تركت من دون معالجة.

«درهم وقاية خير من قنطار علاج». هذا بالضبط ما حاول الإشارة إليه في سيناريو يتطرق إلى مسألة الفساد وانتشار الرشوة وعدم التزام القانون واحتقار المواطن وابتزازه. فمثل هذه المسلكيات التي تهين الإنسان وتظلمه من دون وجود رقابة أو مرجعية أو ملاحقة ستؤدي إلى التحريض على «الفوضى» ولجوء الناس إلى أخذ حقهم بالقوة من دون التزام بالنظام العام. لذلك يطرح شاهين في فيلمه بعض الجوانب التي يقدم عليها المكلفون بتطبيق القانون وحماية المواطن في استغلال مواقعهم لابتزاز الناس وتسخيرهم من أجل منافعهم الخاصة بغض النظر عن المدى الذي يمكن أن تتركه الإساءة لسمعة الدولة وعلاقة أجهزتها بالشارع.

الفكرة إذا واضحة في منطقها ورؤيتها وهي توخت التحذير من إمكانات هبوب عاصفة شعبية تؤدي إلى نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار لأسباب بسيطة تتمثل بمجموعة من النصابين والنهابين والطفيليين تستغل مناصبها لتمرير أغراض شخصية وتكديس ثروات بطرق غير مشروعة وإعادة استخدامها في حقوق لا تخدم سوى الرذيلة.

الفكرة السياسية قام شاهين بتسريبها من خلال سيناريو يتحدث عن شرطي (آمر سجن) معقد جنسيا يسكن في شقة تجاوره فتاة أصغر منه سنا. والشرطي الفاسد المرتشي يحاول إغراء الفتاة المراهقة التي تحب رجل قانون يعمل في إدارة الداخلية (النيابة العامة). فالشاب جيد ويتمتع بأخلاق عالية ويحرص على تطبيق القانون وعدم استخدامه سلاحا ضد المواطنين. فهو يتعمد دائما حماية المواطن بالقانون وضمان أمنه من خلال إعطاء الناس حقوقهم من دون زيادة أو نقصان. التضارب بين الشخصيتين يشكل جوهر الفيلم لأن السيناريو يتحرك بينهما انطلاقا من تلك الفتاة التي تصادف أنها معجبة بأمين النيابة العامة، بينما الشرطي الفاسد معجب بها ويلاحقها من مكان إلى آخر بقصد الإيقاع بها أو على الأقل تشويه سمعتها حتى تسقط بيده مكرهة.

الفتاة من دون أب وتربت برعاية أمها الشريفة والمناضلة والقوية التي تملك خبرة وقدرة واستعدادا لمواجهة تحرشات الشرطي الجار الذي يسكن في المبنى نفسه. والشاب اللطيف والنظيف تورط في علاقة مع فتاة اكتشف أنها لا تليق به فكسر الارتباط بها في اللحظة المناسبة... وهذا التطور أدى إلى تحسين اهتمامه بالفتاة المعجبة به وصولا إلى الاقتراب منها وطلب خطوبتها.

الشاب أيضا من دون أب، فهو فقد والده المناضل الثائر القومي منذ 29 سنة. وعاش في كنف أمه الناصرية ترعاه وتدربه على الأخلاق والقانون إلى أن وصل إلى وظيفة عالية في النيابة العامة.

كل هذه الشخصيات رسمها شاهين بأسلوبه الرمزي. فالسيدة المعجبة بعبدالناصر أشار إلى الفكرة من خلال صورة الزعيم المصري في صالة الدار، والسيدة الصلبة أشار إليها من خلال الاسم. فهي «بهية». وبهية في أفلام شاهين تعني مصر. وكل هذه الشخصيات المتنافرة انعقدت على ذاك الصراع الخفي بين الشرطي الفاسد (آمر السجن) والشاب النظيف (وكيل النيابة). ومن خلال الفتاة البريئة نكتشف ذاك التعارض حين تصدر النيابة القرارات بالبراءة وتطالب بالإفراج عن المعتقلين لعدم كفاية الأدلة يقوم الشرطي الفاسد بالتحايل ويرفض تنفيذ الأوامر ويسجن الناس ظلما ومن دون أدلة دامغة تثبت التهم ضدهم.

هذه الأفكار يسوقها شاهين على طريقته المعهودة من خلال نسج خيوط سيناريو يتطرق إلى مجموعة حكايات في قصة واحدة. فالشرطي الفاسد لا صديقة له وهو غير قادر على إقامة علاقات صحيحة مع النساء لذلك يلجأ إلى طرق ملتوية للتنفيس أو تفريغ حاجاته الأمر الذي يضاعف رغبات الكراهية وحب العدوان على الجنس الآخر. وهذا ما جره إلى افتعال لقاء مع تلك الفتاة والاعتداء عليها ظنا منه أن هذه الوسيلة تبعدها عن الشاب الشريف والنظيف فتضطر إلى الاقتراب منه والقبول به عنوة.

نقطة قوة الفيلم تقوم على فرضية غير متوقعة وهي أن خطة الشرطي في إبعاد الفتاة عن الشاب فشلت. فالشاب يتمسك بها بدعم من والدته ووالدتها ويشكل الرباعي فريق عمل لمكافحة هذا الفاسد الذي يعتدي على أعراض الناس كما يعتدي على القانون. فكرة الربط بين العرض والشرف وانتهاك القانون نقطة قوية وموفقة... خصوصا أن السيناريو انتهى أخيرا بانتفاضة أهلية هبت في الشارع اعتراضا على خرق القانون وانتهاك الأعراض ما أدى إلى إطلاق سراح الموقوفين ظلما مقابل محاصرة آمر السجن الذي يطلق النار على نفسه خوفا من العقاب.

أفلام الراحل يوسف شاهين كلها من الصنف الجيد حتى حين تكون هناك درجات في النوع الواحد. و«هي فوضى» يعتبر سيناريو مهما وليس قويا قياسا بأفلامه الأخرى. مع ذلك فالفكرة التي أراد قولها واضحة وشديدة الخطورة لأنها تريد التحذير من الفوضى في حال استمر المكلفون بحماية المواطن في سياسة اختراق القانون وعدم احترامه طمعا باللذة أو الشهوة أونقصا في الشخصية وطموحاتها. فهذا النوع من الناس المنعدم الإحساس يتعمد سلوك الطرق غير السوية لتعويض النقص فيؤدي الأمر إلى إضعاف سمعة السلطة ودفعها نحو الانهيار و«الفوضى» العامة.

العدد 2169 - الأربعاء 13 أغسطس 2008م الموافق 10 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً