للوصول إلى منطقة «فشت الجارم»، عبر طرَّاد صغير، تحتاج إلى نحو أربعين دقيقة. و «الجارم» كان قرية قديمة كما ينقل المؤرخ سالم النويدري، ولكنه اليوم أرضٌ مغمورة، ضحلة المياه. وكان الصيادون يلجأون إليه عند تقلب الرياح، كما كانت تلجأ إليه سفن الغوص قبل انهيار تجارة اللؤلؤ، للراحة والتزود بالماء العذب من الينابيع التي تتفجر في وسط البحر، وهي ظاهرةٌ أذهلت كل من مرَّ بالبحرين من الرحالة السابقين. أما إذا زرت المنطقة اليوم فستجد تلك الينابيع مسدودة الفوهات بالأسمنت.
فشت الجارم كان صيف العام الماضي بؤرة اهتمام الرأي العام، بعد أن حظي بتغطية صحافية مكثفة، على إثر تسرُّب أنباء عن عرضه للبيع على جهات غير بحرينية. الحركة أنقذت الموقف، وصدرت تطميناتٌ رسميةٌ بكونه ملكية عامة لا يصحُّ التصرف فيها.
في الجارم ثلاث جزر صناعية أنشئت في مطلع التسعينيات، وأقيمت على أكبرها بعض المنشآت والمرافق يرعاها حارسان يقومان بري الأشجار وحفظ الممتلكات، قيل إنها تابعة لشركة، لكن بعد نشر التحقيقات الصحافية تم سحب الحارسين وتُركت الجزيرة نهبا للإهمال، فكانت النتيجة كارثية. انهار نظام الري، الأشجار ماتت من العطش، المرافق خربت، الأدوات الكهربية سُرقت، والمولد الكهربائي انتزع من مكانه... ولم يبق في الجزيرة شيء سالما.
الفشت الذي تبلغ مساحته 260 كيلومترا مربعا، (أي ثلث مساحة البحرين)، كان خارج الذاكرة الحكومية، بدليل أننا بقينا - وزراء ونوابا وبلديين وصحافة ومواطنين - أسبوعا كاملا لا ندري إلى أي محافظة يتبع، ولأي وزارة يخضع. وفي الأخير أنقذ الموقف وزير البلديات والزراعة منصور بن رجب الذي أعلن مسئولية وزارته عن جميع الجزر والفشوت.
من يزور الفشت وينزل الجزيرة الرئيسية، سيذهله التخريب الذي طالها، وسيتساءل حتما عن المسئول عن إهمالها طوال الأشهر التسعة الماضية، ما جعل هذا المُلك العام أشبه بحديقة من دون ناطور، تغري باستباحتها أي متطفل أو عابر سبيل.
ربما يعود النواب لمساءلة الوزير بعد عودتهم من الإجازة، وربما يسبقهم الوزير إلى خطة «إعادة إعمار» سريعة، وخصوصا أن الحفاظ عليها لن يكلّف الوزارة شيئا، لكن تبقى الغُصة في القلب: لماذا كان هذا الإهمال؟
إنها تكشف طريقة تعاطينا السلبي واللامسئول مع البيئة، حتى شارفت على مرحلة الخطر، سواء في خليج توبلي، أو سواحل المعامير والحد وكرباباد، مع استمرار عمليات الدفان والردم، وزوال أنظمة الحماية البيئية الطبيعية التي استمرت آلاف السنين، فدمَّرها جيلنا الجشع الذي لا يشبع.
أحد المهتمين بالبيئة، في رحلتنا الأخيرة للجارم، كشف في حديث خاص، أنه في عز فترة التغطيات، اتصل به شخصٌ ودعاه إلى مكتبه، وعرض عليه مشروعا خاصا: «إقامة محاضن للأسماك وطواحين هوائية لإنتاج الكهرباء وبيعها على الحكومة»! ولمَّا سأله: وما المطلوب مني؟ أجاب: «أن تتحدث كبيئي عن فوائد هذا المشروع»! بعد فترة أدرك صاحبنا أنه كان يتعرض لعملية نصب واحتيال، وحكاية «محاضن الأسماك» كانت مجرد طُعمٍ لترويج مشروع على الورق. والطريف أن أحد «القبضايات» تبنَّاه بعد فترة، وأخذ يدافع عنه في صحيفة لا يحكمها قانون أدبي أو مهني يحد من قبض العمولات.
إنها قضية البيئة اليتيمة التي أصبحت في مهبِّ الريح، بعد هذه الموجة الكاسحة من المشاريع الاستثمارية الكبرى التي تكتسح البر والبحر.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2168 - الثلثاء 12 أغسطس 2008م الموافق 09 شعبان 1429هـ