العدد 2168 - الثلثاء 12 أغسطس 2008م الموافق 09 شعبان 1429هـ

لبنان وسورية... وضريبة الجغرافيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يبدأ الرئيس اللبناني اليوم زيارته لدمشق حاملا معه ملفات متنوعة في اهتماماتها السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والإنسانية والسيادية. فالزيارة مهمة في اتجاه تصويب علاقات ثنائية تعرضت للزعزعة بعد حصول التمديد القسري للرئيس السابق اميل لحود، وما أداه من تداعيات واغتيالات واتهامات متبادلة.

الزيارة إذا مهمة وضرورية ولا غنى عنها حتى لو لم تسفر عن نتائج ميدانية مباشرة باعتبار أن بعض تلك الملفات الثنائية تحتاج إلى قراءات قانونية؛ لكونها تتصل بترسيم حدود بلدين وتبادل سفراء والبحث عن أسرى ومفقودين. وهناك أيضا ملفات مزمنة في قدمها؛ لأنها تعود إلى فترة الانتدابين البريطاني والفرنسي والتقسيمات التي تعرضت إليها بلاد الشام في الفترة الفاصلة بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية.

الملفات كثيرة ويرجح أن يعود الرئيس ميشال سليمان محملا بالوعود والتوافقات المبدئية على قضايا عامة تمس أمن البلدين ومصالحهما المتبادلة سواء على مستوى الاقتصاد أو على مستوى الدفاع. وفي حال وضعت النقاط على الحروف بشأن الملفات الحساسة (معابر الحدود، مزارع شبعا، استراتيجية الدفاع، ضمان الاستقرار، موضوع الأسرى) تصبح إمكانات تصحيح الخلل في العلاقات الثنائية واردة من حيث احتواء التوتر ومنعه من الاستمرار في السياق الراهن.

ضبط العلاقات الثنائية تحت سقف التفاهم العقلاني والعاقل حاجة لبنانية أكثر من أن تكون سورية باعتبار أن مصالح لبنان محكومة بالجغرافيا ولا توجد أمامه من خيارات أخرى سوى ترتيب التواصل بين دمشق وبيروت. فسورية هي المعبر البري الوحيد لبلاد الأرز. وهذا الممر يشكل تقليديا المتنفس التجاري (الترانزيت) والبشري (حركة النقل والتنقل) منذ نكبة فلسطين في العام 1948. وبسبب هذا الموقع الجغرافي كان على لبنان دائما مراعاة الجانب السوري والتفاوض معه وعدم استفزازه والقبول بالكثير من التنازلات حتى لا تقفل المعابر والطرقات وتتعطل الكثير من المصالح.

هذا الهاجس المصلحي المعطوف على المخاوف الأمنية شكل في العقود الستة الأخيرة نقطة توازن في العلاقات الثنائية بدءا من الانقلاب العسكري الذي قاده حسني الزعيم في دمشق وصولا إلى انفراد حزب البعث بالسلطة في سورية. فالجغرافيا في النهاية سياسة وهي تفرض شروطها على علاقات الجوار وتضبطها تحت سقف معقول في حال أحسنت العاصمتان التفاهم على الحد الأدنى من توازن المصالح.

لا خيارات كثيرة أمام الرئيس اللبناني الذي يبدأ محادثاته اليوم مع الرئيس السوري. فالخيارات محكومة بالجغرافيا وهي في النهاية لا تزيد عدديا على الواحد. وبسبب هذا الخيار الوحيد جغرافيا يرجح أن يتفهم الرئيس سليمان الكثير من الهواجس السورية ومخاوف القلق التي أبدتها دمشق من نمو تيارات لبنانية تحتج على السياسة التبعية والمنهج الالتحاقي الذي اعتمدته السلطة في بعض مراحلها.

سياسة الخيار الجغرافي الوحيد تفترض ضمنا أن طموح الرئيس اللبناني لتصحيح العلاقة سيواجه عقبات في حال أقفلت الملفات التي يحملها معه على حلول سلبية لا تلقى الارتياح من القوى السيادية. أما إذا لاقت الملفات المزمنة ذاك التجاوب الايجابي المطلوب فإن العلاقات الثنائية ستدخل في مطلع عهد الرئيس في طور التصويب الذي تراهن عليه بيروت.

الجغرافيا السياسية

مشكلة لبنان السياسية مع محيطه ليست جغرافية فقط وإنما تتفرع أيضا لتشمل ملفات كثيرة تتصل بالدفاع والثغرات الأمنية والمسألة الفلسطينية واحتمال استئناف «إسرائيل» عدوانها في لحظة غير محسوبة. وهذه المشكلة المتدحرجة التي يدفع لبنان ثمنها غاليا بين فترة وأخرى شكلت نقطة ضعف في العلاقات الثنائية وساهمت في زعزعة مفهوم «وحدة المسارين». فالوحدة غير موجودة ميدانيا باعتبار أن لبنان (دولة ومقاومة) يقاتل ويحارب ويتحمل الكوارث وسورية تفاوض وترتب علاقاتها من دون مشاركة. وأدى تَكرار سيناريو «وحدة المسارين» إلى تشكيل قناعات لبنانية تشير إلى نوع من التفاهمات الإقليمية تعتمد سياسة تصدير الحروب إلى بلاد الأرز وتركها ساحة مكشوفة ومفتوحة للمزايدات والمناقصات.

لاشك في أن لبنان (دولة ومقاومة) معني بالمفاوضات السورية - الإسرائيلية غير المباشرة التي يقال إنها وصلت إلى طور متقدم من التفاهمات في الجولة الرابعة. فالمفاوضات التي تعقد في اسطنبول من خلال القناة التركية لا يمكن أن تنتهي من دون أن تترك آثارها السلبية أو الايجابية على لبنان بحكم موقعه الجغرافي وعدم وجود خيارات أخرى يستطيع اعتمادها. وعدم توافر البديل يتطلب من لبنان (دولة ومقاومة) الانتظار للتعرف إلى الفضاءات الدولية ووجهة سير التفاهمات الإقليمية والمترتبات الواجب اتباعها في سياق «وحدة المسارين».

الكلام الذي يقال عن إن لبنان ليس معنيا بالمفاوضات الثنائية بين دمشق وتل أبيب لا علاقة له بالسياسة والمصالح واستراتيجية الدفاع، وربما يقال للتهرب من المسئولية أو لعدم توافر المعلومات الكافية التي تسمح بتقديم ذاك الجواب المقنع.

لبنان (دولة ومقاومة) أكثر جهة معنية بالمفاوضات غير المباشرة بين سورية و «إسرائيل». واهتمامه بالموضوع يتصل بأمنه، وهو لا يقل في أهميته عن التأثير الذي تتركه المفاوضات الثنائية على المسار الفلسطيني. ولبنان في هذا المعنى عرضة للقلق والانتظار؛ لأنه من جانب يتصل جغرافيا بسورية وفلسطين؛ ومن جانب آخر يتلقى الاهتزازات الأمنية بسبب اتصاله السياسي بالمسارين السوري والفلسطيني. وبما أن بلاد الأرز لم تتوصل بعد إلى طور فك الارتباط الجغرافي - السياسي بالمسارين السوري والفلسطيني فمعنى ذلك أن لبنان (دولة ومقاومة) هو الأكثر تضررا أو استفادة من تلك المفاوضات الثنائية التي تحصل بين تل أبيب ودمشق ورام الله. وهذه النقطة المهمة استراتيجيا غير مطروحة كما يبدو في الملفات التي يحملها الرئيس سليمان معه في زيارته الأولى لسورية.

«وحدة المسارين» فكرة نظرية مطروحة بحكم الجغرافيا ولا علاقة لها بالسياسة حتى لو كانت المفاوضات الثنائية غير المباشرة تتعرض لملفات كثيرة لا تقتصر على موضوع الجولان وما يحتويه من عناصر وروافد ومصبات ومطبات. ولبنان (دولة ومقاومة) في خضم جولات المفاوضات يبدو في موقع الطرف المراقب الذي ينتظر النتائج ولا يعلم بها إلا ساعة حصولها. وهذا بالضبط ما ساهم في توليد قناعات لبنانية بوجود صفقات إقليمية مضمونة دوليا تستهدف استقرار بلاد الأرز ووحدتها وسيادتها.

القناعات اللبنانية ليست مفتعلة وإنما تأسست سياسيا على تجارب ميدانية آخرها تمثل في ذاك العدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف 2006. فالعدوان حطم البنية التحتية للدولة واستهدف تفكيك البناء السكاني للمقاومة ودفع عَنوة المجموعات الأهلية إلى الدخول في تجاذبات طائفية ومذهبية ومناطقية وحروب شوارع وأزقة ومخيمات (نهر البارد) وفتن متنقلة لاتزال حتى الآن تتحرك من مكان إلى آخر. ومثل هذه القناعات التي تحولت إلى هواجس سياسية ترتقي في بعض جوانبها إلى الإحساس بوجود مؤامرات تعقد سرا على حساب لبنان تستحق الانتباه وتحتاج إلى تطمينات وتوضيحات ولا يمكن تجاهلها والتعامل معها بسخرية واستخفاف. فالقناعات هذه منتشرة بقوة في الشوارع السياسية اللبنانية ومشكلتها الأساسية أنها غير موثقة حتى يحملها معه الرئيس سليمان في ملف خاص يمكن مناقشته مع الجانب السوري.

هذه في النهاية ضريبة الجغرافيا، وهي تفرض أثمانها السياسية حتى لو توصل الرئيس اللبناني إلى تفكيك بعض الألغام وتجاوز بعض العقبات في زيارته الأولى التي بدأت اليوم إلى دمشق. فالملفات كثيرة وبعضها يعود إلى مطلع القرن الماضي وبعضها الآخر حديث العهد. وبما أن الزيارة قصيرة لا تتعدى مدتها اليومين يرجح أن تتواصل اللقاءات والجولات حتى ينجلي على الأقل الغبار الكثيف الذي يعطل الرؤية لمعرفة مصير «وحدة المسارين» في ضوء النتائج التي ستسفر عنها المفاوضات الجارية في تركيا.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2168 - الثلثاء 12 أغسطس 2008م الموافق 09 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً