في مقالنا السابق تناولنا تصريحات الشيخ يوسف القرضاوي التي هاجم فيها «المد الشيعي» المتجه نحو «المجتمعات السنية الخالصة» وعرجنا مسائلين وناقدين إلى ذكر أمثلة أخرى تحيلنا إلى خلاصة استنتاجية سبق وأن تناولناها في مقال سالف مفادها أن التصورات والخطابات الطائفية هي جزء لا يتجزأ من طبيعة ووضعية رجل الدين ذاته مهما بلغ خطابه من علو وحدوي ومهما اتسعت آفاقه ومداركه، كما تطرقنا ضمن السياق ذاته إلى نقض تسفيه القرضاوي للمنادين بتطبيق العلمانية وهي المنهاج الغربي الذي لا يتوافق بحسبه إلا مع البلدان الأوروبية المسيحية التي عانت من الكهنوت، ولم يكن نقضنا ونقدنا لهجوم القرضاوي ذاك إلا بسبب أن حجته هي حجة تنظيرية تتناقض مع الأوضاع القائمة والمهيمنة سياسيا وشرعيا في عدد من الأقطار الإسلامية الكبرى وعلى رأسها إيران والسعودية وغيرهما.
وتلبية منا لما وعدنا به القراء الأعزاء في المقال السابق من تقديم عرض لجزئية من كتاب «هرطقات 2» للمفكر جورج طرابيشي تتناول البديل العلماني والصراعات الطائفية الإسلامية في المجتمعات العربية الإسلامية، فإننا نتناول في هذا المقال ما ذكره طرابيشي في مقال له تحت عنوان «العلمانية كإشكالية إسلامية - إسلامية» حيث سلط من خلاله الضوء الناقد والجريء على الأزمة الطائفية في المجتمعات العربية الإسلامية ذات الجذور الأصيلة الضاربة في تاريخ الدعوة الإسلامية، كما قدم سجلا تاريخيا حافلا للمذابح والمجازر والفتن الطائفية التي استعر كثير منها في بغداد «دار السلام» على مدى القرون.
ومن ثم وفي سياق إثبات أصالة الأزمة والبلوى الطائفية الإسلامية في المجتمع العربي الإسلامي بدلا من أن تصغر لتكون مجرد غرس مشبوه وفيروس دخيل يستشهد طرابيشي بكمية وافرة ومتخمة من النصوص الطائفية والتكفيرية الموغلة في الإقصاء والقمع والتنجيس والمتبادلة بين الدائرتين السنية والشيعية معا دون أن يعرف خاتمة المصير.
ومن بعد أن عرض طرابيشي في مقالته تلك كما وافرا ومرعبا لتفاعلات «الماغما» الطائفية الصاهرة في باطن مجتمعنا العربي الإسلامي عبر القرون، فإنه يبدو كما لو أنه يتوصل إلى «ان الأمر لا يحتاج إلى كبير اجتهاد: فما يجري اليوم في العراق، وإلى حد ما في باكستان، وما يمكن أن يجري في السعودية أو في دويلات الخليج أو في إيران، أو حتى في تركيا، فيما لو ارتفعت يد الدولة القامعة أو الضابطة، لا يدع مجالا للشك في أن الطائفية في الإسلام ليست حدثا طارئا ولا مصطنعا بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه».
ويتساءل بشكل جذري لا غنى عنه: «كيف السبيل إلى تسوية العلاقات المتوترة دوما، الكامنة في ظاهرها تحت الرماد، بين طوائف الإسلام؟». ويستنكر المؤلف على المنادين بحل ديمقراطي من دون علمانية ضرورية لا غنى عنها في مجتمع طائفي سيفرز في النهاية قيادات وشرائع طائفية منتخبة بمفاعيل مدمرة، ويشرح وجهة نظره الجديرة بالمناقشة قائلا: «بديهي أننا، في دفاعنا الحار هذا عن العلمانية، لا نهدف إلى أن نجعل منها إيديولوجيا خلاصية كما كنا فعلنا مع فكرة الوحدة العربية أو الاشتراكية بالأمس، وكما يفعل اليوم مع فكرة الديمقراطية. ولن نكون أصلا إلا واهمين فيما لو تصورنا أن العلمانية كافية وحدها، من حيث هي أساسا آلية سلبية تقوم على فصل الدين عن الدولة، لطي صفحة حرب طائفية مستمرة بالأفعال كما بالأقوال منذ أكثر من ألف سنة». ويضيف «العلمانية هي نفسها بحاجة، في الساحة العربية الإسلامية التي هي ساحتنا، إلى إعادة اكتشاف وتطوير وتكييف. فلئن قامت العلمانية في الغرب على أساس التحييد الديني للدولة، فإن العلمانية في المجال العربي الإسلامي لابد أن تقوم أيضا على التحييد الطائفي للدين نفسه. وذلك ما دام الدين - وهنا الإسلام - يتوزع لا إلى طوائف متباينة فحسب، بل أيضا وأساسا متعادية متكارهة يقوم كيانها على الضدية المتبادلة وتعتمد في التعامل فيما بينها معجم التكفير والتنجيس».
ليستنتج في النهاية أن «الدين - وهنا الإسلام - هو من أحوج الأديان اليوم إلى الفصل فيه بين الزمني والروحي. فأصلا الانقسام الطائفي في الإسلام سياسي وليس دينيا».
وإن كنت بدوري أتساءل عن دور النخب الحريصة على وحدة وتماسك الأمة المحاصرة في إعادة مناقشة ومراجعة دعوة جورج طرابيشي تلك في كتابه «هرطقات 2» فهل ستجدي كبسولات الهرطقة الطبية تلك أكثر من آخر العلاج الشرعي وهو الكي الطائفي الذي لجأ إليه المتسامحون مثل القرضاوي وغيره الكثير من رجال الطائفتين الكريمتين/ العدوتين أم ستكون لها مفاعيل جانبية مضاعفة ومدمرة؟!
هل لكم أن تتصوروا دينا أو مذهبا دون حقيقة مطلقة يؤمن ويستأمن بها رجال الدين ويكتنزوا أسرارها، فلو خلا الدين والمذهب منها، أي الحقيقة المطلقة، فسيكون سيركا، ولكن ما السبيل إلى ترويضها وتحويلها إلى قدر استراتيجي من التعايش والتسامح والقبول الأخوي المشترك؟!
هل لنا مثلا بإعادة قراءة تجارب الهند وجنوب أفريقيا وغيرهم بدلاُ من ترداد الترنيمة الكلاسيكية المعتادة عن أوروبا القرون الوسطى وأوروبا التنوير والحداثة؟!
ولكن في مقابل الهرطقة الطرابيشية المروج لها في سياق حجاجي ومنطقي جاف وصلب، والتي قد يؤخذ من خلالها على طرابيشي أنه يقدم مروية حدية ذات شفرة واحدة هي ذاتها التي تستخدم في تقطيع جسد الأمة العربية والإسلامية إلى أشلاء صراعات ومذابح وفتن طائفية، فإنه قد تفهم دعوة طرابيشي العلمانية تلك على أنها محكومة ومتقمصة بالنظرية الاستشراقية في تصورها الفسيفسائي للتاريخ العربي والإسلامي على أنه مكون من تناحرات وصراعات طائفية بين مجموعات وعصب أقلية وأغلبية دونما قرار، وبالتالي لن يكون هنالك من خلاص إلا بامتصاص وتشرب جوهر الحداثة الغربية أو العمل على إيجاد حل إسلامي داخلي في سياق مماثل بدلا من اللجوء إلى استنباط المضادات الحيوية الموجودة في الجسم العربي الإسلامي والمقاومة للتشظي والتفتت الطائفي!
فهل كياننا الحضاري والثقافي الشرعي إلى درجة من الضعف يكون في النهاية من خلالها مسلما عافيته وزبدة روحه إلى تلك «الهرطقات» الطرابيشية والحلول الحداثية، أم أن تلك الاستثارة والشلل الطائفي الرعاش أقرب إلى نزلة برد وحمى استراتيجية طارئة شهدنا أمثالها كثيرا ومن الممكن في النهاية تمييز الهامش والحاشية من النص من أن تكون أزمة وجودية وبنيوية مزمنة؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ