العدد 2166 - الأحد 10 أغسطس 2008م الموافق 07 شعبان 1429هـ

درويش... والطريق إلى فلسطين

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«أيها المارون بين الكلمات العابرة

احملوا أسماءكم، وانصرفوا».

شاءت المصادفة أن يتوقف قلب الشاعر الراحل محمود درويش في المنفى. ورحلة درويش بين منفى ومنفى تختصر حياة شعب قيض له أن يعيش خارج الوطن يبحث عن طريق للعودة. وطن الفلسطيني هوية. وهوية فلسطين تحولت إلى رمز أقوى من الأرض والدولة.

محطة درويش الأخيرة هي لحظة عابرة في رحلة عمر بدأت بالاقتلاع. وحين تبدأ طفولة شاعر بالاقتلاع والنزوح القسري والطرد من أرضه تصبح المحطة الأخيرة من رحلته مفهومة.

الرحيل إلى لبنان كان خطوة الطفل التالية. وهناك سيكتشف والده بعد سنة أن البقاء خارج الأرض ينتظر العودة. وحلم العودة أخذ يبتعد زمنيا فقرر التسلل إلى فلسطين. فالعودة تسللا أسرع من انتظار العودة. عاش درويش فترة المراهقة مطاردا وملاحقا ولم يكن أمامة من خيار آخر سوى الانضمام إلى الحزب الشيوعي في اعتباره الملجأ الوحيد المتاح آنذاك أمام الأقليات العربية للقراءة والتفكير والكتابة. وحين بدأت أنباء الثورة تصل إلى أبناء الأرض التي كانت تتعرض للهدم وإعادة البناء لاستقبال «مهاجرين» للتوطن أخذت تتشكل في مخيلة الشاعر صورة العودة المضادة.

وهكذا قرر الشاعر السفر بعد أن تطور وعيه الشقي وضاع بين خيار الأرض (الحزب) وخيار العودة (البندقية). خيار المغادرة كان نتاج الوعي الشقي الذي ظهر في مخيلته حين توافر له خيار آخر. وانتهت فترة الضياع بين الأرض والبندقية فاختار درويش المغادرة والالتحاق بالثورة.

بيروت كانت محطة غنية في حياة الشاعر. فهناك اكتشف الكثير من خفايا الصورة. وهناك تعرف على شعر من نوع آخر. ومن تلك المدينة أعاد درويش النظر في بناء هيكل القصيدة فأدخل على شعره تعديلات رمزية تربط القضية بالعاشق.

محطة بيروت أعادت تشكيل الصورة فارتسمت في المخيلة مقطوعات فنية منثورة رفعت القضية إلى مستوى الرمز والمرأة إلى مكان القضية. ومن تداخل الوان الجسد بحلم الأرض بدأ «عاشق من فلسطين» يتقدم نحو طور جديد من الشعر يبتعد قليلا عن البندقية ويقترب أكثر إلى العودة.

حلم بيروت لم يستمر طويلا. فمن طرده عنوة من قريته في العام 1948 زحف إليه مجددا ليعاود طرده من المدينة في العام 1982. رحل درويش عن المدينة التي أحب. فهي كانت «الخيمة الأخيرة» في محيط شاسع لا يحتمل لجؤ شاعر.

المارون... العابرون

بعد الخروج من ملجأ بيروت دخل درويش محطة الشتات المنظم. فالشتات هذه المرة كان أقرب إلى القرار وليس خيارا مفروضا. فهو خسر بيروت وغير قادر على العودة... فذهب إلى عمّان وتونس واستقر في باريس ليبدأ رحلة العودة إلى التاريخ. وهناك قرأ تاريخ الأندلس واكتشف الهزيمة وكتب عن أساطيرها. ومن تلك المحطة أعاد ترتيب مشاهد الصورة من الاقتلاع إلى النزوح إلى العودة تسللا إلى الوعي الشقي والضياع بين الأرض والبندقية إلى اختيار المغادرة وعشق الثورة ثم الطرد من الخيمة وعبور بحر من الشتات المنظم.

بعد كل هذا اكتشف الشاعر أنه من الخطأ انتظار العودة. فهذا الحلم لانهاية له وهو أشبه بالنوم الطويل من دون يقظة. قرار العودة جاء بعد مخاض أليم. فالقرار كان أقرب إلى حد السيف فهو إما ألا يكون أو يكون بشروط. وبين العدم والاحتمال اتجه الشاعر إلى خيار العودة المشروطة بعد أن امتدت فترة الشتات المنظم. وهكذا رجع الشاعر من الشتات ليبحث عن مكان ضائع.

عبور درويش إلى فلسطين كان أشبه بعودة المسافر لا المقاتل. فالأخيرة عنيفة بينما الأولى أقرب إلى حنين عاشق لحبيبة. وفي منطقة العودة تشكلت في المخيلة صدمة واعية اكتشفت الواقع على حقيقته وأعطت صورة بعيدة عن الحلم وما يعنيه من إشارات ورموز.

صدمة الوعي كان لابد منها بداية تمهيدا للانتقال إلى طور أعلى بدأ يتكون في محطته الأخيرة حين أخذت تتشكل من تضاعيفها قراءة تكتب بالكلمات مشاهد قلقة تعكس بدء وعي الصدمة.

في لقاء هاتفي أجرته صحيفة «الحياة» مع الشاعر سألته عن انطباعاته بعد عودته فقال «الطريق إلى فلسطين أجمل». درويش حاول أن يختزل مشاعره في فكرة تشير إلى الرمز. فالكفاح من أجل العودة أقوى من العودة. والحلم يتلاشى بعد اليقظة. فالحلم رمز وحين يتحقق تتراجع الرمزية لترتفع مكانها الواقعية.

الطريق إلى فلسطين تختصر حياة الشاعر درويش منذ لحظة الاقتلاع العنيف إلى العودة المشروطة. والطريق في هذا المعنى هي الأجمل لأنها تحمل في مخيلتها الرمز والحلم. ومن يحلم بالحبيبة تختلف مخيلته عن العاشق الذي يبحث عن فرصة ليجتمع بها، وأجمل القصائد كتبت عن عاشقين لم يجتمعا. فالحلم يحصن التوقعات ويرفعها من الواقع إلى الرمز بينما اليقظة تهبط بالحلم من الرمز إلى الواقع. بين الواقع والرمز عاش درويش حلم العودة على طريق فلسطين. وعندما عاد اكتشف الفارق بين لقاء الحبيبة وحلم اللقاء بها. فالعودة ثقافة وثقافة العودة أجمل أحيانا من العودة. والمقاومة ثقافة وثقافة المقاومة أقوى من المقاومة. الرمز أقوى وأجمل وأفعل. وحين يبتعد الرمز عن السلاح تتلاشى قيمته ويتحول السلاح إلى سلعة تستخدم في كل الاتجاهات... وقطعة حديد لا تتورع في الارتداد إلى الداخل.

قيمة الشيء أحيانا ليست في ذاته وإنما في وظيفة القيمة وارتفاعها إلى رمز أو حلم. وحين يصبح الحلم حقيقه تبدأ معركة الإنسان لمنع سقوط الرمز إلى الواقع. وهذا ما قصده درويش حين صرح بأن «الطريق إلى فلسطين» هو الأجمل.

شاءت المصادفة أن يتوقف قلب درويش في غرفة العناية الفائقة في مستشفى في مدينة هيوستن الأميركية. فالشاعر مضى إلى محطته الأخيرة لكن كلماته ستبقى ولن تعبر وتمر.

«ايها المارون بين الكلمات العابرة،

آن أن تنصرفوا

وتقيموا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2166 - الأحد 10 أغسطس 2008م الموافق 07 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً