لا تملك وأنت تعيش الأيام المزهوة بالنصر في لبنان إلا أن تحني الرأس إكبارا وإجلالا للشهداء من عظماء أمتنا الذين صنعوا لنا النصر المظفّر في يوليو/ تموز 2006 ومن صيّر الهرمل - تلك البلدة المطلة على «عاصي» الأنهار - مدينة نموذجية لأولئك الشهداء الأبرار.
إنه نهر العاصي وإنها مدينة الهرمل، النهر سمي العاصي؛ لأنه عصى ما هو مألوف ومتعارف عليه فسار عكس ما هو مشهور من سير الأنهار التي تنبع من الشمال متدفقة إلى الجنوب، على حين هو ينبع من الشمال إلى الشمال نعم ولكنه يتجه شمالا شمالا نحو سورية ومن ثم إلى تركيا وكأنه يحن للتواصل مع عالمه العربي والإسلامي الأرحب، والمدينة سميت الهرمل ربما نسبة إلى الجذر الآرامي القديم الذي يعني «هرم أيل» أي هرم الإله، ولعله حنين باطني عميق من جانب أهلها إلى «وحدة الوجود» التي يتحدث عنها صدر المتألهين الشيرازي في «حكمته المتعالية» فكانت مدينة الشهداء عن حق؛ لأنها المدينة الأكثر عددا بإهداء الشهداء للوطن - الأمة حيث ناهزوا خمسين شهيدا.
وهكذا تصبح مدينة الهرمل المدينة الأهم في العطاء والبذل على رغم بعدها الجغرافي عن مركز الوطن ووقوعها في عزلة جغرافية قاسية وسط ما يشبه أجواء صحراء الربع الخالي الشهيرة، حتى استحقت عن جدارة هي وتوأمها بعلبك صفة خزان المقاومة؛ لكثرة ما قدمت من رجال تباروا في تقديم الغالي والنفيس في طريق الجهاد كما برعوا في الكلمة والتعبئة والحض على الكفاح من أجل انتزاع حقهم وحق الوطن الذي إليه ينتمون بالاعتراف بهم جزءا أساسيا من أمة تستحق الحياة.
كل شيء مختلف في مدينة الشهداء هذه من الشاي الذي يستقبلونك به ويودعونك إلى «بيت المونة» الذي به يتميزون إلى أدبهم الجم الذي به يتألقون، إلى «جَلَدهم» وصبرهم الطويل على الأذى الذي يلامس صبر أيوب عندما يصرون على السير جنوبا جنوبا للالتحام بقافلة الجهاد والشهادة ليس فقط من أجل لبنان الذي يحبون، بل من أجل فلسطين التي يعشقون.
ومع ذلك فهي المدينة الأكثر مظلومية والمجحفة حقوقها المدنية، ولعل السبب في إهمال الدولة والسلطات لها؛ لأنها تقع في «القاع» أو قريبة منه في تقسيمات جغرافيا المركز والأطراف.
«سديفهم» لا ينفك يحمد الرب في أدبياته على نعمه الكثيرة على هذه البلدة وفي مقدمتها أن الله انتشلها من «قاع» الجغرافيا إلى قمة صناعة التاريخ بفضل عطاء أهلها لله ومن أجل الله.
و «نوارهم» ساحلي الهوى على رغم بعد مدينته عن سواحل بحر فلسطين الأبيض المتوسط فلقد قرر أن يصبح نائبا عن أهلها ليدافع عن «سلاح عهود الأنصار» في أروقة الدولة الخلفية كما تحت قبة برلمان أبى أن يسقط بيد المتهورين والمغامرين بحقوق الوطن والمواطن، بعد عن ذبّ عنه و «نفخ» فيه روح الحياة ذلك الفارس «المغامر» من سلالة النبي الأكرم (ص) اللابس لعباءة الإمام الحسين (ع).
ورئيس بلديتهم هو من اصطفاه الله ليبلغ درجة «الشهيد الحي» لقدرته الفائقة على تعبئة الناس من أجل الذب عن حياض الوطن وسياج الأمة الحصين ومساهماته المتميزة في تبلور «أوبرا» رجال الله يوم الفتح في لبنان.
ولكنه الغرب «الساذج» مرة أخرى الذي لا يرى العالم إلا تابعا للعقل «الديكارتي» الذي لا يفهم أن للفؤاد والقلب لغة لا يفهمها العقل كما يقول الفيلسوف والعارف الكبير محيي الدين بن عربي، وهو بالتالي لم يستطع ولن يستطيع أن يفقه لغة هؤلاء القوم وقراهم التي لا يمكن أن تفرط بإرثها التاريخي والمعنوي والمتواصل عبر الأجيال من أجل أحلام «قيصر» مغرور أو مغامر ومتقلب هنا أو هناك يحاول اليوم أن يعطي لعدوة الإنسانية في السياسة ما خسرته في الحروب.
قد يكون صحيحا أن هذا القيصر المغرور لايزال يمتلك من أسلحة الدمار الشامل والقدرات المتفوقة ما يستطيع بها أن يتشدق بإمكانية إعادة الكرّة ضد لبنان أو هذه المرة ضد حلفاء لبنان ممن وقفوا إلى جانبه في السراء والضراء ولكنه لن يستطيع أن يخرج سالما بالقطع واليقين وستكون له مدن المجاهدين وقراهم وبلداتهم بالمرصاد ليلقنونه ما لم يخطر ببال بشر كما تحثنا بلدة الهرمل لوحدها فكيف إذا ما تحركت كل بلدات الأمة تترا على خطى «بحيرة الصيادين» أو وادي الصيادين كما يحلو لأبناء مدينة الشهداء مدينة الهرمل أن يقرأوا اسم مدينتهم بحسب تفسيرات اللسان العربي المبين.
من جهة أخرى، إذا كان صحيحا أن مدينة الشهداء الآنفة الذكر برمزيتها شأنها شأن سائر مدن وبلدات أهلنا وأمتنا على امتداد الوطن الإسلامي الكبير تحاول شراء الوقت اللازم لإتمام مهمة الاستقلال الوطني الناجز والاستمرار في رفد المجاهدين بالرجال من غزة المحاصرة ظلما وعدوانا إلى بيروت المزهوة بالانتصارات هذه الأيام إلى بغداد التي تعض على الجراح إلى حين حلول موعد الوثبة الكبرى، ولكنها تفقه تماما ما لا يفقهه القيصر المغامر والمقامر أن من سيضع الشروط هذه المرة إذا ما تكررت المحاولة مرة أخرى لأية مفاوضات وقف إطلاق نار لن يكون بالتأكيد من يجتاح البلدان ويغزو الأوطان والناس نيام، بل إن الزمن بات زمن المقاومين والممانعين من عرب ومسلمين بامتياز، وإن لم تظهرهم المعادلة الدولية بعدُ كما يجب، وأن ما لم تأخذه أميركا بالحرب الماضية لا يمكن أن تأخذه بالحروب الجديدة.
وكما فشلت كل محاولات التذاكي من خلال اللعب على وتر الفصل بين الأقطار مرة وبين المذاهب أو الطوائف مرة أخرى أو التحايل أو الالتفاف على انجازات لبنان الذي بات مصانا ومعززا بالانتصارين العظيمين ليس فقط لم يعد ممكنا له أن يتجرأ على هذا اللبنان العظيم، بل إن عليه أن يذعن لحقيقة بات يتغنى بها اللبنانيون من كل الطوائف والأطياف والمعتقدات بأن زمن القوة والهيمنة والاستيلاء قد عفا عليه الزمن، بل بات من مقامرات العصر الكبرى؛ ذلك أن «زمن النصر تجلى وزمن الهزائم قد ولى» كما تقول الأهزوجة الشعبية اللبنانية بحق.
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2165 - السبت 09 أغسطس 2008م الموافق 06 شعبان 1429هـ