انفجار القتال بين روسيا وجورجيا في إقليم أوسيتيا الجنوبية قد يكون بداية أزمة مفتوحة تنقل «الحرب الباردة» بين موسكو وواشنطن إلى مرتفعات القوقاز وربما تمهّد لتسوية تأخذ في الاعتبار مصالح دولة كبرى وموقعها الاستراتيجي في منطقة حيوية تتكاثر فيها الأقليات وتشكل تهديدا أمنيا في خاصرة روسيا الجنوبية - الغربية.
الوقت سيقرر في أي اتجاه ستسير نحوه أزمة إقليم أوسيتيا الجنوبية. والوقت المنتظر ليس بالضرورة طويلا. فالأيام القليلة المقبلة ستعطي فكرة عن كون الأزمة مفتعلة وموضعية في تأثيراتها أو أنها مواجهة مفتوحة ومتنقلة وتمهد لحرب استنزاف طويلة تعطل على موسكو إمكانات استرداد هيبتها الدولية بعد طول غياب عن المسرح الذي انفردت الولايات المتحدة بإدارته في العقدين الماضيين.
في كل الحالات تبدو القيادة السياسية الروسية في موقع الطرف الجاهز للثأر والانتقام وعدم التساهل في مسألة ترى أنها تمس السيادة وتوازن المصالح. وردة فعل موسكو على خطوة الاستفزاز التي بادرت جورجيا باتخاذها تبدو قوية باعتبار أن التردد في مواجهة التحدي سيؤدي إلى اشارات تظهر ضعف روسيا وعجزها عن الدفاع عن حدودها الجنوبية - الغربية وأمنها القومي ودورها الخاص في صوغ توازنات القوة في منطقة جبلية وعرة في مسالكها الجغرافية ومعقدة في تضاريسها السكانية وتكويناتها الأقوامية والدينية والمذهبية والقبلية.
تقليديا تعتبر مرتفعات القوقاز نقطة ضعف جغرافية في تاريخ روسيا سواء في فترة الامبراطورية القيصرية أو في فترة الامبراطورية السوفياتية أو في مرحلة ما بعد الانهيار وتفكك الجمهوريات واستقلالها عن مركز الكرملين في العام 1991. وتحرك روسيا الجمهورية السريع واستخدامها القوة العسكرية لكسر الهجوم الجورجي وجه رسالة عنيفة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (الحلف الأطلسي) تؤكد أن موسكو لن تتساهل هذه المرة في تجاوز «الخط الأحمر» واقتحام معاقلها الجغرافية/ التاريخية في منطقة ازدادت حيويتها الاستراتيجية بعد اكتشاف النفط في بحر قزوين.
جورجيا دولة زراعية متخلفة ولا تمتلك تلك الثروات والمواد الطبيعية المهمة للصناعات الأوروبية - الأميركية، ولكنها تمتاز بموقع جيوسياسي خطير يطل على البحر الأسود من جانب ويشكل منطقة تتوسط أذربيجان وتركيا لعبور خط أنابيب النفط من جانب آخر. وأهمية جورجيا الآن أنها تمثل لشركات النفط العالمية تلك المنطقة الآمنة التي تعزل روسيا عن خط الأنابيب الذي يربط باكو (عاصمة أذربيجان) بتبليسي (عاصمة جورجيا) بميناء جيهان التركي. وهذا الخط الأنبوبي تراهن عليه شركات النفط وتعتبره بمثابة شريان حيوي لنقل الطاقة بعيدا عن رقابة موسكو التي هددت مرارا باستخدام النفط والغاز ورقة ضغط سياسية على دول أوروبا الشرقية.
المسألة إذا معقدة في زواياها وتتجاوز حدود إقليم أوسيتيا الجنوبية الريفية التي يبلغ سكانها 70 ألفا. فالإقليم الجورجي صغير وضعيف وقليل السكان ويضم بلدات وقرى جبلية معزولة تحمل الجنسية الروسية وتعتنق المسيحية على المذهب الأرثوذكسي. الكنيسة واحدة وهي تضم تحت قبتها روسيا وجورجيا ولكن المصالح تخالفت بعد أن تدخلت الولايات المتحدة على خط النفط الذي ينقل الطاقة من بحر قزوين إلى الميناء التركي. وحتى تحمي واشنطن مصالح شركاتها لجأت إلى سياسة إغراء جورجيا بالمساعدات المالية والاقتصادية ووعدها بالانضمام إلى الحلف الأطلسي (الناتو) تمهيدا لإدخالها في السوق الأوروبية (عضو في الاتحاد الأوروبي).
التدخل الأميركي
تدخل أميركا في الملف الجورجي أثار قلق روسيا من احتمال تحول القوقاز مجددا إلى ثغرة تزعزع استقرار حدودها الجنوبية - الغربية من خلال تحريك «أقليات» تتركز تقليديا في مرتفعات تساعد على توليد اضطرابات أمنية كافية لاستنزاف موسكو وطموحها نحو تجديد موقعها في إدارة السياسة الدولية.
الرد الروسي العنيف على التصعيد الجورجي شكل رسالة قوية من موسكو إلى واشنطن تتألف من ثلاثة إطارات: الأول، جغرافي سياسي. والثاني، أمني استراتيجي. والثالث اقتصادي نفطي.
الإطار الأول يتصل بالحدود وتآكل موقع روسيا على البحر الأسود بعد أن خسرت دورها في أوكرانيا. والثاني يتصل بالأمن الذي يزعزع استقرار روسيا في منطقة وعرة في مرتفعاتها الجبلية الاستراتيجية وتضاريسها البشرية التي تشمل تنوعيات من الأقليات الأقوامية والدينية والمذهبية والقبلية. والإطار الثالث وهو الأهم يتعلق بالنفط والصراع الدولي على تقاسم احتياطات هائلة اكتشفتها الشركات في بحر قزوين.
الصراع على نفط قزوين سيكون العنوان الذي سيحدد سياق المواجهة العسكرية المحدودة بين دولة كبرى تجتهد لإعادة موقعها على الخريطة الدولية وبين دولة إقليمية صغيرة تطمح أن تلعب دورا مستفيدة من جغرافيتها السياسية. روسيا لاشك لن تقبل بالاستفزاز والإهانة من دولة مجاورة كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي وتقع استراتيجيا في مجالها الحيوي. وأميركا ستحاول قدر الإمكان استخدام جورجيا ورقة ضغط سياسية على منافسها الدولي للمقايضة على مناطق أخرى ونقاط اختلاف ظهرت بينهما في الكثير من الملفات الساخنة (إيران وكوسوفو ودرع الصواريخ). ولمعرفة اتجاهات الرياح لابد من مراقبة تطور الاشتباك في إقليم أوسيتيا الجنوبية. فالإقليم الصغير مجرد نافذة جغرافية أخذت الدول الكبرى تطل منها على مواقع وملفات أخرى يحتل فيها نفط قزوين وطرق إمداداته وجره من البحر إلى الموانئ المركز الأساسي في التجاذب العنيف الذي ظهر فجأة على الشاشة الدولية بين روسيا وجورجيا.
نفط قزوين الذي ازدادت قيمته التجارية بعد ارتفاع أسعار الطاقة يشكل زاوية مهمة في الاقتصاد الروسي الصاعد إقليميا. ومثل هذه الجوهرة السوداء لا يمكن لدولة كبرى التفريط بها من خلال السماح بتمرير النفط بواسطة أنابيب تعتبرها موسكو حركة التفافية تضعف هيبة الكرملين لأنها تربط أذربيجان بجورجيا بتركيا بعيدا عن رقابتها ودورها الإشرافي على التصدير وتقلل من أهميتها بصفتها طرفا عنده القدرة على التحكم في الأقفال والصنابير. وخط الأنابيب الممتد من باكو إلى ميناء جيهان التركي المجهز للتصدير مرورا بالعاصمة الجورجية ليس بعيدا عن مجال المدفعية الروسية التي لم تتجاوز طلقاتها حدود إقليم أوسيتيا. واقتصار المواجهة حتى الآن في إطار جغرافي محدود لا يعني أن الأزمة غير مرشحة للانفتاح على ملفات وقضايا ساخنة أخذت تقض مضاجع العلاقات المتوترة منذ حين بين موسكو وواشنطن.
انفجار القتال ضمن دائرة إقليم صغير قد يكون بداية أزمة مفتوحة بين الدول الكبرى باعتبار أن الخلافات بين عواصم القرار تبدأ دائما من النزاع على التحكم في سياسة الدول الصغيرة. كذلك قد يكون الاقتتال المحدود الآن بمثابة جرس إنذار يقرع الباب لفتحه مجددا على طاولة الحوار والتفاوض والمقايضة. فالتحرش الذي تورطت به جورجيا عسكريا ضد دولة كبرى على حدودها لا يمكن وضعه في حدود خطأ في الحسابات وخطوة ناقصة وتقديرات غير دقيقة. فما حصل أكبر من إمكانات دولة ريفية زراعية متخلفة ولا يمكن عزله عن فضاءات دولية تعتمد على امتدادات أوروبية وأميركية تستهدف الضغط على موسكو وجرها إلى تقديم تنازلات في أمكنة مقابلة.
السؤال عن المقابل الذي تريده واشنطن من موسكو يعطي الجواب عن المدى الجغرافي للانفجار وطوله الزمني وتداعياته الإقليمية؛ لكون المعركة تتصل بملفات كثيرة أهمها نفط قزوين ومعابره وخطوط الإمداد والنقل. الجواب عن السؤال لن يأخذ وقته حتى نتعرف إلى الطرف المستهدف من وراء التحرش العسكري. فالمواجهة إذا انفتحت فستكون الأزمة متنقلة ومتدحرجة وعودة عنيفة لسخونة «الحرب الباردة» وإذا أقفلت بسرعة لمصلحة تطمين روسيا على أمنها الاستراتيجي وجغرافيتها السياسية ودورها في الإشراف على مرور النفط في مجالها الجواري الحيوي تكون موسكو أعطت الموافقة على المقابل الذي يعوض واشنطن خسائرها المفترضة في جورجيا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2165 - السبت 09 أغسطس 2008م الموافق 06 شعبان 1429هـ