العدد 2164 - الجمعة 08 أغسطس 2008م الموافق 05 شعبان 1429هـ

بجين... 8/8/8

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

افتتحت أمس في بكين (بجين) بتوقيت 8/8/8 الدورة الأولمبية الصيفية. رقم 8 يعتبر في الموروث الصيني إشارة إلى الحظ السعيد. ومن يمتلك الرقم اكتسب أبواب السعادة وفتح أمامه درب الرقي وصولا إلى الحصول على ما يريده من أمنيات.

هذه «الخرافة» الموروثة عن العصر الامبراطوري استخدمتها الدولة «الحداثية» و «العصرية» لترويج أهمية الدورة الأولمبية وتسويقها في الشارع الشعبي بقصد لفت انتباهه إلى أن الصين بعد هذا التاريخ ستنتقل إلى طور جديد في تقدمها الاقتصادي والاجتماعي. والمصادفة التي حددت الافتتاح في ثلاثة أرقام ثمانية تعني أن ضربة الحظ ستكون مضاعفة وتفوق التصورات وتتجاوز قدرات المخيلة على التفكير.

الحلم بالسعادة المطلقة انطلاقا من تجاور ثلاث «ثمانيات» في وقت واحد يشكل المفتاح السحري الذي استخدمته سلطة «ماركسية» للترويج لفكرة بدء الصين في طور جديد من التقدم. وهذا النوع من الاستخدام لمعتقدات متوارثة عبر الأجيال يؤكد أهمية الماضي وضرورته في تحريك مخيلة الحاضر وتفعيلها حتى تعطي ما عندها من قوة دفع لصناعة مستقبل متقدم في توازناته وشروطه.

استخدام الموروث في صنع المستقبل مسألة مهمة لأنها تشير إلى قوة الماضي ودوره في تحريك الحاضر. وهذا الربط الزمني في المحطات نجحت القيادة الصينية في التعامل معه بذكاء منذ أن نفذ الحزب القومي (الكومنتانغ) بقيادة شان كاي تشك انقلابه السياسي على الامبراطور معلنا قيام «الجمهورية» في مطالع القرن الماضي. فالانقلاب الجمهوري القومي شكل خطوة تاريخية نوعية ساهمت في كسر «سور الصين العظيم» وفتحت تلك الثغرات المطلوبة للبدء في مرحلة التحديث بغية إصلاح الدولة «المركزية» وإعادة هيكلة علاقاتها الداخلية من خلال مد الجسور مع المحيط الجغرافي (الجواري) والخارج.

خطوة الكومنتانغ مهدت الطريق لاحقا للبدء في ترسيم معالم ثورة قادها ماوتسي تونغ في الريف الصيني وانتهت في تطويق المدن وإسقاطها واحدة تلو أخرى وصولا إلى طرد شان كاي تشك إلى جزيرة فورموزا (جمهورية تايوان حاليا).

الثورة الصينية بدأت بخطوة، وحتى الآن لم تتوصل إلى قطع مسافة «ألف ميل». فالمسافة الطولية جغرافيا تختلف في شروطها عن المسافة الزمنية. فالأولى تحتاج إلى الصبر وتحمل المشقات والثانية تتطلب مخيلة خصبة قادرة على مواصلة إنتاج الوعي المدرك لشروط التقدم التاريخي. وهذا ما حاولت القيادة الصينية التوصل إليه من خلال الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل وعدم قطع حلقات السلسلة الزمنية كما حصل في التجربة السوفياتية. ماوتسي تونغ أدرك منذ بدء ثورته أن الصين حضارة مغرقة في القدم، والريف هو المسيطر والمدن مجرد جزر صغيرة يحيط بها بحر من الفلاحين وأصحاب المهن والحرف اليدوية (المنزلية). وشكل هذا الوعي المركب عند ماو قاعدة انطلاق منعته من المغامرة وتجاوز محطات التطور وعدم القفز في الهواء قبل تأمين مواقع أرضية ثابتة للهبوط.

استخدم ماو فكرة التدرج في التطور الاجتماعي وتجنب قدر الإمكان إسقاط نظريته «الماركسية» - التي تأسست في أوروبا الصناعية - بالمظلات على تربة زراعية تسودها نمطية من العلاقات القديمة المحكومة بثقافة امبراطورية متوارثة تتخذ من أسطورة التنين (الوحش الجميل) واسطة لبناء دولة مركزية مشدودة الى الواحد (الامبراطور).

بسبب هذا الوعي التاريخي نجح ماو في إعادة هيكلة الماركسية وتأسيسها ضمن شروط الواقع الصيني. وأدى إدراك الاختلاف بين فكرة «أوروبية» وتاريخ آسيوي إلى تكوين أيديولوجية زاوجت بين المثال (الطموح) والواقع (الإمكانات) واعتمدت في سياستها العملية مشروع مخطط يمر في محطات متتالية حتى لا يخرج القطار عن سكته.

التطور الهادئ

منذ العام 1949 بدأت الصين بالانتقال من طور إلى آخر بهدوء أحيانا أو بالقوة أحيانا ضمن رؤية واقعية تتجنب السقوط في أوهام لا تستطيع الدولة (القيادة) تنفيذها ميدانيا على الأرض. وساهم هذا الوعي التاريخي لشروط التقدم في تسهيل حركة التطور الاقتصادي ومواصلة النمو حتى في فترات الانقسام والفوضى والصراع على السلطة واقتتال «الرفاق» على النفوذ والتحكم بمواقع السيطرة.

الآن بعد مرور 60 سنة على تلك التجربة الطويلة والمُرَّة بدأ العالم يتحدث عن الصين «الجديدة» واحتمال دخولها في طور التنافس مع الولايات المتحدة لاحتلال المركز الأول في الاقتصاد الدولي. ومجرد الكلام عن هذا الاحتمال يعتبر في عالم السياسة نقطة تحول في إمكان إعادة التوازن في معادلة الشرق والغرب.

الكلام عن التوازن فيه مبالغة وخطوة متسرعة في قراءة التحولات التاريخية وما يحتاجه التقدم من شروط موضوعية وذاتية لمواصلة حركة العبور من طور إلى آخر.

بين الصين وقيادة العالم هناك عقبات تعترض هذه الفرضية. فالاحتمال وارد، ولكنه يحتاج إلى قراءة متأنية حتى لا تسقط النظرية في سلسلة أوهام غير واقعية. والعقبة الأولى التي تواجه هذا الاحتمال تتركز في مسألة الدولة واختلاف تكوينها التاريخي (الحضاري) عن «الدولة» في الولايات المتحدة. فالدولة المركزية التي يديرها الحزب الشيوعي في الصين هي نتاج تطور المجتمع الذي نهض تقليديا على وحدة المركز وانغلاق السلطة وانشداد عناصرها إلى قطب جاذب (الامبواطور)، بينما الدولة في أميركا تأسست من خارج تطور المجتمع حين بدأت خطواتها الأولى في اقتلاع السابق من جذوره وإعادة تكوين سلطة جديدة معتمدة على «استيراد» مجتمع آخر من الخارج. هذا الاختلاف بين دولة تأسست بعد تطور المجتمع ونموه باتجاه مركزية مطلقة (الامبراطور ثم الحزب الحاكم) ودولة تأسست قبل المجتمع وأشرفت على تنظيم علاقاته تحت سقف سلطة لا مركزية، يعطي فكرة عن صعوبات تقدم الصين اجتماعيا وتجاوز تلك الموروثات (رقم ثمانية مثلا) في رؤية الحاضر والمستقبل.

الاختلاف بين الموقعين يمكن أن يوضح لماذا الدولة في أميركا فقيرة مفلسة وعاجزة اقتصاديا ومديونة بمليارات من الدولارات ولكنها لاتزال قادرة على منع السقوط حتى الآن، بينما الدولة في الصين غنية وثرية وتراكم احتياطات نقدية هائلة ولكنها عاجزة عن تجاوز رقم 8 واستخدامه رمزا تقليديا لتحريك مخيلة الشارع الشعبي.

الاختلاف بين أميركا والصين يمكن تلخيصه في نقطتين: الأولى، أن الدولة في الصين غنية وقادرة وقوية (رأسمالية الدولة الاشتراكية) بينما المجتمع لايزال في بدايات طور الانتقال من القرية (الريف) إلى عصر المدينة. والثانية، أن الدولة في أميركا مفلسة وعاجزة وضعيفة وغير قادرة على احتواء مشكلاتها المتنامية بينما المجتمع قطع مسافات زمنية في التقدم الاقتصادي والاجتماعي وبلغ مرتبة من النمو الذي لا تستطيع الصين الوصول إليه في حاضرها.

«رأسمالية الدولة الاشتراكية» نظرية سياسية ساهمت في إنجاز التراكم الأولي للتقدم الاجتماعي - الاقتصادي وساعدت الصين على الانتقال من استبداد الفرد (الامبراطور) إلى استبداد الحزب (اللجنة المركزية) إلا أن التراكم الثاني المطلوب لإنجاز التقدم على مستوى المجتمع (التوزيع العادل للثروة) يحتاج إلى خطوة تنقل السلطة إلى طور «اشتراكية الدولة الرأسمالية». والتقدم هذا يحتاج إلى توسيع شبكة النمو من مرحلة تراكم المال واحتكاره (احتياطات نقدية في خزانة الدولة) إلى مرحلة تنمية المجتمع والمشاركة وضمان تنوع البلاد الديني والقومي من دون تمييز بين الجماعات الأهلية في محيط بشري تأسس على تعاقب حضارات كان لها الفضل في تنوير العلاقات الإنسانية في مراحلها الأولى.

أمس عاشت بجين لحظات افتتاح الدورة الأولمبية في توقيت له دلالته في الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال رمز السعادة الذي تقول به الموروثات من عهود سابقة. فالأرقام الثلاثة التي تصادفت 8/8/8 تعني الكثير في وعي الصين الجمعي، فهي من جهة تربط المحطات الثلاث (الماضي بالحاضر بالمستقبل) وهي من جهة أخرى قد تعني بدء الانتقال من طور المركزية والانغلاق إلى طور الحرية والانفتاح. وهنا بالضبط يبدأ التحدي لإعادة ذاك التوازن المفقود بين الشرق والغرب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2164 - الجمعة 08 أغسطس 2008م الموافق 05 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً