رحل الروائي والمؤرخ والكاتب السياسي الروسي الكسندر سولجنستين عن 90 عاما بعد حياة طويلة اتسمت بالملاحقة والتحدي والاعتقال والنفي والتجريد من الجنسية ثم العودة إلى الوطن والانكفاء على الذات وصولا إلى العزلة والموت.
حياة سولجنستين تكثف سيرة مثقف قلق عاش ظروفا قاسية وغير مستقرة في بلد مترامي الأطراف جغرافيا وتتحكم به مجموعة أنماط غير متجانسة اقتصاديا واجتماعيا ومسلكيا. فالتفاوت في تطور المجتمع لعب دوره في تشكيل شخصية معقدة في وعيها المأزوم ورؤيتها للعالم من زوايا مختلفة. روسيا التي عاشها سولجنستين غير تلك التي حلم بها. وروسيا التي غادرها بعد نحو قرن من الاضطرابات والانقلابات والمؤامرات هي غير تلك التي توقع أن تصل إليها في أيامه الأخيرة.
سيرة المثقف القلق هي عادة نتاج وعي مأزوم يعاصر وقائع انتقالية في بلد يزاوج بين المتناقضات. وسولجنستين شكل تلك الشخصية التي زاوجت بين الشرق الكلاسيكي والغرب الحديث وبين اقتصاد زراعي متخلف واقتصاد صناعي يطمح بالانتقال إلى طور متقدم في التقنيات والاختراعات والانجازات. شكل هذا التداخل في التاريخ انكسارات داخلية في وعي مضطرب في خياراته وتجاربه ومصادر ثقافته. فروسيا الدولة غير روسيا التاريخ والتفاوت بين هيئة دولة تعتمد رؤية ايديولوجية وبين مجتمع متعدد الهويات حطم وحدة التطور وأعاد توزيع التفاوت على إطارات تتجاذبها تموجات من حالات الانتقال من محطة إلى أخرى والارتحال من نموذج إلى آخر من دون توقف.
سيرة سولجنستين القلقة تعكس سيرة روسيا التاريخ المتعارض والجماعات الأهلية والدولة التائهة والمعارضة التي لا تتوافق في جوهرها السياسي على اعتماد هوية مشتركة توحد الأمزجة. وبسبب هذا الاختلاط تشكلت سيرة سولجنستين من روافد جمعت القومي بالديني والروسي بالسوفياتي والشرقي بالغربي والتقليدي بالحديث والاشتراكي بالرأسمالي والمقاتل على جبهة العدو والمعتقل في سجن الدولة. وكل هذه التضاريس والنتوءات تشترك مجتمعة في ترسيم صورة مثقف قلق عاش فترات من حياته في الظل وسراديب المعتقلات الألمانية أو الروسية. وفترات تحت أضواء كاشفة وشهرة عالمية لاحقته من مكان إلى آخر... وانتهى أخيرا في عزلة اختارها لنفسه بعد عودته من نفي قسري.
هذه السيرة تلخص محطات الكثير من المثقفين في اعتبارها تعطي فكرة مختصرة عن مجتمعات ارتحالية تعيش هواجس الخروج من ذاكرة التاريخ وطموحات تريد دفع التقدم بقوة ذاتية للتطور باتجاه يحقق ذاك التوازن المطلوب للبقاء أطول مدة على هامش التاريخ. فالمجتمعات الارتحالية هي في النهاية تحمل في وعيها التاريخي المأزوم سلسلة محطات انتقالية تحتاج إلى امتداد زمني لعبورها بينما المثقف القلق يطمح لتحقيقها بسرعة قياسية حتى لو تطلب الأمر القفز من مكان إلى آخر ونسف الجسور من دون تفكير بالعودة.
90 سنة عاشها سولجنستين في تضاعيف زمن روسي مضطرب وارتحالي وانتقالي وغير مستقر. فهو ولد في العام 1918 مع نهاية الحرب العالمية الأولى التي كلفت روسيا الإمبراطورية نحو 15 مليون ضحية لتخرج منها من دون فوز. النجاح الوحيد الذي أنجزته السلطة القيصرية من تورطها في الحرب ضد ألمانيا كان سقوطها على يد البلاشفة في العام 1917. فالثورة الشيوعية الانقلابية التي قادها لينين (جيش الحمر) وقعت قبل سنة من مولد سولجنستين الذي عاش طفولته الأولى في كنف شعارات ايديولوجية وإعلام ديماغوجي واقتتال أهلي وانقسامات سياسية أطاحت برؤوس نحو 7 ملايين من البشر.
حين بدأ سولجنستين بالانتقال من مرحلة الطفولة إلى المراهقة والشباب لم يكن أمامه سوى خيار واحد وهو الالتحاق بالنظام والدفاع عنه بصفته يشكل القوة الدافعة لتقدم القطار في مسار التاريخ. البداية كانت مقفلة ودائرية ولا توجد مخارج للحلقة من دون كسرها. وهذا الأمر لا يتحقق من دون وجود خيارات أخرى أو بدائل يعتمد عليها أو تسرب ثقافة مضادة تحطم القشرة الايديولوجية التي تجمعت على مدار المراهقة والشباب.
بداية الوعي المضاد حصلت في الحرب العالمية الثانية حين أعلنت ألمانيا الحرب على الاتحاد السوفياتي متجاوزة ذاك الاتفاق السلمي الذي وقعه أدولف هتلر مع جوزيف ستالين. وأدى الهجوم الألماني الصاعق إلى احتلال الجزء الأوروبي من روسيا وتم تطويق موسكو ولينينغراد (بطرس برغ) وستالينغراد في العام 1941. وانخرط سولجنستين في المعركة دفاعا عن بلاده لا عن الحزب والنظام وسقط أسيرا ليخرج في نهاية الحرب في العام 1945 في رؤية مضادة للسلطة الفردية المستبدة.
تسرب الوعي المضاد رفع من درجة قلق المثقف الشاب فاندفع نحو الاعتراض فقاده التمرد إلى سجن الدولة (حزب الرفاق) ليشاهد بقايا حلم تمزق في الزنزانات وغرف المعتقلات.
هوية مختلطة
ثماني سنوات في معسكر الاعتقال كانت كافية لإعادة تذويب شخصية سولجنستين في قالب يخالف طفولته ومراهقته وشبابه. فهذا المثقف القلق أصبح الآن في 35 من عمره وبات في موقع يسمح له بإعادة قراءة تجربة أصيبت بالإعياء وحطمت طموحات مثالية راهنت على إمكانات التقدم بسرعة تتجاوز الضوء.
أحلام سولجنستين بالمستقبل تشكلت بعد خروجه من السجن في العام 1953 ولكنها ارتدت إلى الماضي السحيق لتمسك بحاضره البائس وتجربته المرة فاتجه إلى كتابة الرواية بصفتها تشكل المدى الحيوي الذي يمكن من خلاله تفريغ المكبوت وإطلاق المخيلة من السجن الذاتي واختراع الشخصيات والكشف عن حقائق عاشها وتعايش معها في معسكر الاعتقال.
من الزنزانات أخذ نور سولجنستين يشع ويشرق وينتشر إلى الغرب حاملا معه تفصيلات كانت كافية لتجميع مادة حيوية للإعلام الأميركي والأوروبي ومهدت لتأسيس حملة ضد الاتحاد السوفياتي دفاعا عن الحريات وحقوق الإنسان. تحولت قصة سولجنستين معطوفة على سيرته الذاتية إلى معركة دولية في العام 1963 واستغلتها أنظمة الغرب لتسجيل نقاط سياسية ضد الأنظمة الاشتراكية في روسيا وأوروبا الشرقية. وأخذت المعركة تتطور وتحول سولجنستين إلى رمز الحرية والعبودية في آن بعد الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل للآداب في العام 1970.
الجائزة الدولية شكلت ذاك المنعطف في حياة أديب وروائي وكاتب سياسي يحترف قراءة التاريخ إلى محطة نوعية في وعي سولجنستين الذي لم يتوقف عن تسجيل الكلمات إلى أن جرد من جنسيته وطرد من الاتحاد السوفياتي ليلتحق بالغرب وأنظمته الليبرالية والديمقراطية في العام 1974.
في الغرب دخل سولجنستين مرحلة جديدة اتسمت خطوتها الأولى بالإعجاب والثانية بالحنين إلى روسيا والثالثة بالصدمة من الغرب والرابعة تمثلت بإعادة اكتشاف حقيقة أنظمة الاستهلاك والسطحية والغش والكذب والخامسة بإعادة تصحيح المعادلة وأخيرا بالارتداد إلى الماضي والغضب من الغرب وصولا إلى الحقد والكراهية والقرف من سياساته المنافقة.
عاش سولجنستين 20 سنة في سويسرا وألمانيا وأميركا ليكتشف ضحالة ثقافة تعتمد السطحية وتستهلك الإنسان وتطوِّع حياته بحثا عن مكاسب مصطنعة ونجاحات وهمية. فهذا المثقف القلق (الارتحالي والانتقالي) اكتشف أن الغرب استغل طيبته وحبه للحرية ورفضه للاستبداد ليصنع منها أيقونة بقصد استخدامها في المعركة ضد الشرق واستثمارها سياسيا لتقويض الاتحاد السوفياتي.
بعد انهيار الاشتراكية قرر سولجنستين العودة إلى بلاده في العام 1994 ليتكشف أن التحول السريع دفع روسيا إلى الفوضى والتفكك مفسحا المجال للعصابات الاقتصادية والمافيات السياسية للنهب والسرقة والتحكم بمقاليد السلطة ومصادر ثرواتها.
عاش هذا المثقف القلق سنواته الأخيرة في عزلة اختيارية قررها لنفسه حتى يتنسى له المراقبة والملاحقة والمكاشفة والنقد المفتوح على مختلف الجبهات. واستطاع سولجنستين في العقد الأخير من حياته الطويلة والمضطربة تأسيس منهج اعتمد التشريح والتجريح من دون مسايرة أو تحايل ما أدى إلى توسيع دائرة الأعداء وتقطيع جسور المصالحات مع محيطه القريب وتلك البيئات البعيدة التي تشكلت من روافدها سيرته القلقة.
سولجنستين الذي رحل عن عمر 90 سنة ترك في مختلف محطات تطوره شخصية مركبة تداخلت في نسج خيوطها مجموعة تأثيرات دمجت بقوة الماضي بالحاضر فأدّى الاصطدام إلى تمزيق الأحلام وخلطها بالكوابيس فظهرت في المرآة صورة مثقف لا هوية نهائية له. فتجريده من الجنسية مزق هويته ليعيد تشكيلها كما يريد. فهل هو قومي متعصب للروس السلاف أو ديني متمسكك بالكنيسة الأرثوذكسية أو ثائر متمرد ضد الاستبداد أو عاشق للحرية والإنسان والحياة أو مرتد إلى الماضي يبحث في سجلات التاريخ بهدف تشكيل وعي مضاد للمألوف؟ كل هذه النقاط نجح سولجنستين في جمعها في صورة واحدة فظهرت أحيانا محطمة في المرآة وظهرت المرآة أحيانا محطمة في صورته. فهل هو شخصية محطمة ظهرت في مرآة أم أن المرآة محطمة أصلا وانعكست صورتها في سيرته القلقة التي مانعت وقاتلت وتقلبت من دون أن تنجح في الوصول إلى حلم يحتاج إلى زمن لتتوضح صورته.
شخصية سولجنستين تعكس في النهاية سيرة مثقف قلق شاءت المصادفات أن يولد ويعيش في بلد متعارض في هويته وتواريخه ويعاصر تحولات انقلابية لا تعرف الهدوء والاستقرار منذ طفولته إلى رحيله. ومثل هذه الفضاءات المحلية والدولية تترك تأثيراتها على وعي إنسان قرر عدم الاستسلام لما يقال له وإنما لما يقوله.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2162 - الأربعاء 06 أغسطس 2008م الموافق 03 شعبان 1429هـ