ليس أحلى وأشف وأرق وأثلج للصدر وأدمع للمقلتين من منظر فتى مراهق يعانق بحرارة جدته أو أمه أو والده، أو مشهد لشاب يضم إلى صدره زوجته وأبناءه بعد طول فراق ومغادرة حتى لو كان جميع هؤلاء المعانقين والراكضين في دروب الاشتياق والمحبة البريئة هم «أخطر مجرمي أو مذنبي العالم». فلا صوت ولا صورة ولا رائحة أعظم من رائحة المحبة والعودة والشوق، وهؤلاء هم في النهاية أشقاؤنا وأبناؤنا وقد عادوا إلى أقربائهم بمبادرة كريمة ومعهودة من جلالة الملك، ولكن على رغم ذلك لا تكتمل في خاطري تلك البهجة وذلك الانشراح ففي هذه البلاد يتخذ شكل الحراك الاجتماعي والسياسي والحقوقي ما أشبه بالحلقات السياسية المفرغة والخانقة وكأنما بلا نهاية، كما أن العفو قابل لأن يكون أزمة «طائفية» لا تقل عن أزمة الاعتقال المحسوبة «طائفيا»!
فدائما ما تتجلى عبثية تلك الحلقات السياسية المفرغة بحرينيا في كل مرة على هذه الشاكلة أو «السيناريو» مظاهرات غاضبة غير مرخصة تتبعها أعمال شغب وعنف وتخريب، فاعتقالات وضبط أمني، فاحتجاجات واستنفارات حقوقية مسيسة في جانب كبير منها، عسى أن يقابلها هجوم صحافي مضاد أكثر تسييسا وعلى رأسه مدافع النائب جاسم السعيدي وصواريخه أرض جو المثيرة، فما إن تقترب مواسم المحاكمات حتى يتم إطلاق سراح المعتقلين بعفو سامٍ يتلوه لقاء علمائي رمزي ووطني بجلالة الملك، ليستنفر وينتفخ من بعده بعض أقطاب مشروع «المجتمع المدني السني» نفرة أشبه بنفرة وانتفاخ ابن صياد «لماذا تطلقون سراح المعتقلين الشيعة وتتركون السنة؟ لو كانوا سنة لما تركتموهم؟».
ويعقب هذا النفير الاصطناعي أو يأتي من ضمنه تصريح ناري واستهداف مفصلي موجه إلكترونيا بالهوية من قبل أخونا النائب جاسم السعيدي - هداه الله - الذي ربما يقع ذات مرة في دائرة استهدافه حتى استجوابه بعيد المدى رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون ذو مستويات الشعبية المنحدرة، عسى تأتي من بعده احتجاجات جماهيرية مشروعة ليس لها أول وآخر، ولكن ترافقها كالعادة أعمال تخريب وعنف طائشة فاعتقالات وقمع أمني بالمرصاد، فاحتجاجات حقوقية مسيسة ونهوض طائفي ولوذ بالمظلومية المقدسة من أقطاب «المجتمع المدني الشيعي» القائم بواقعه ضد هذه الاعتقالات، فتجد بيانا مأزوما وموبوءا ربما يستنكر اعتقال المراهقين والصبية والطلاب الشيعة في مقابل التسامح إزاء «الإرهابيين الوهابيين» المطلوبين دوليا، فيكون بالتالي لقاء وطني يضم ذات العلماء والرموز، وتحسب أن الأزمة بعد ما اشتدت قد انفرجت حتى يأتيك صدى الفتنة في أودية الجوار بلا قرار مع اشتعال الفجر، ويتكرر السيناريو ذاته في السنة ألف مرة!
فإلى متى تستمر تلك العجلة الفولاذية في دورانها الشيطاني الملعون دون توقف؟ وكيف تنتهي تلك الحلقات السياسية المفرغة في البحرين التي أتت على ملفات مصيرية كبرى وأبعدتنا بسرابيتها عن مشاريع التنمية السياسية الحقيقية وقبلها الملف البيئي حتى أبسط مشاريع التنمية المناطقية، وأتت وبالا على حل مشكلة الإسكان والأراضي التي تبدو واقعا كما لو أنها لن تحل في ظل غياب الأولويات وتقدم الأهواء والأمزجة العاطفية على أبسط وأولى الضرورات الواقعية؟
وبينما تزداد أسعار جميع المواد الغذائية الرئيسية وتتضخم بشكل خلايا سرطانية وأورام مندلعة إذ «الحلقات السياسية المفرغة» ذاتها تبقى السلعة واللعبة الأرخص، وسعرها في متناول الجميع من شتى المحيطات الطبقية، وهي سلعة شرعية وحلال لدى علماء كل الطوائف الذين يتفقون على ثبوتها شرعا في السوق أكثر من ثبوت هلال العيد في راحة السماء، وهي الحلقات التي تذكرك بمقولة الفنان الراحل يوسف وهبي الشهيرة: «الدنيا مسرح كبير»!
ما أسرع انعقاد اللقاء والحوار الوطني وما أسرع انفكاكه واضمحلاله من بعد كوميض خاطف وشهب مندثرة ومتذرية في ماء الحلك، وما أجرأ تلك التصريحات الطائفية المدعومة كما لو أنها ضرورة استراتيجية لمقارعة عدو أو خصم أو حبيب! فأنت في النهاية تحت امتداد حلم وطني شهي أفقي رحب وإن كان في باطنه مئة ألف كابوس وكابوس تقسيمي عمودي!
المصيبة الأكبر في كل سلسلة من سلاسل الحلقات السياسية المفرغة في البحرين هي حينما يلجأ ويعمد ويعتمد إلى تديين الصراع والأزمة والحادثة في كل بادرة ومحاورة وطنية عليا لاحتواء هذا الصراع والأزمة وتجاوز الحادثة، فترى لفيفا لا حصر له من علماء الدين الكلاسيكيين وعلماء الدين الممارسين للسياسة (العبء الأكبر) وغيرهم، فيتداول «دين واحد» و «وطن واحد» و «ولاء واحد» و «مشكلاتنا نحلها في بيوتنا» حتى إذا ما انفض اللقاء بدأت الحلقات الجهنمية المفرغة تتداعى كخرزات المسابح المتناثرة، لتدور حروب العصابات «الغوريلا» وحروب البيانات الصحافية المدفوعة!
ومثل هذا التديين لصراع وأزمة سياسيين مكشوفين بامتياز ومعروفين فيها الأدوار السياسية الحصرية إنما هو مهما كانت النوايا من قبيل التصحيح وللالتفاف وتغطية الجرح المتقيح بغلالة بيضاء رقيقة، فلماذا يطلبون ممثلي ونجوم «المسرح الوطني» لا طاقة لهم للخروج عن أغلال النص المعد سلفا للتمثيل والإخراج، وذلك في الوقت الذي يتوافر المخرجون وكتّاب السيناريو ومصممو الديكور و «الميك آب» خلف الكواليس؟
لعل ما يزيد المواطن حيرة وتفجعا أنه حينما يود أن يسأل أصحاب القرار والنفوذ عما يفعلون للخروج من لعنة تلك الحلقات السياسية المفرغة، ومن وأد الفتنة قبل أن تبلغ صباها، فكأنما يأتي المواطن الجواب سلفا قبل السؤال «إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبْرا» (الكهف: 67-68)!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2162 - الأربعاء 06 أغسطس 2008م الموافق 03 شعبان 1429هـ
سرقه
حرامى الدقيق