التحفظ الذي وضعه بعض وزراء الفريق المسيحي في حكومة فؤاد السنيورة الثانية على «البيان الوزاري» بشأن الفِقرة المتعلقة بالدولة والمقاومة أطلق سجالات سياسية بشأن مفهوم «السيادة» وحق الدولة في احتكار القوة (السلاح) وإشرافها على قرار الحرب والسلم ومنع أي طرف أهلي من جرجرة البلاد إلى مخاضات لا يقوى الكيان على تحمّل نتائجها.
السجال الايديولوجي تركز على إضافة فِقرة «كنف الدولة». فالفريق السيادي اعتبر أن امتناع الفريق الآخر ورفضه وضع تلك العبارة يشكلان ثغرة في جدار نظرية الدولة؛ مما يهدد لاحقا أمن البلد واستقراره وربما يدفع الدولة إلى تعريض وحدتها لاستحقاقات خطيرة وغير محسوبة ومدروسة.
موقف الفريق السيادي يحتاج إلى قراءة تخضع للتدقيق اللُغوي والنظري والعملي. فمن الجانب اللُغوي «الكنف» تعني الصيانة والحفظ والإحاطة والاحتواء والاستيعاب أي أن «المقاومة» تكون في عهدة «الدولة». ومن الجانب النظري ما يقوله الفريق السيادي صحيح على مستوى التعامل القانوني مع مفهوم الدولة. فالدولة بحسب القوانين المتعارف عليها كلاسيكيا هي الطرف الذي يحتكر القوة ويشرف على إدارة الدستور وينظم العلاقات الأهلية ويفرض الضريبة ويوزع الثروة. فالقوانين المتوافق عليها دوليا تعطي الدولة السيادة المطلقة وصلاحيات الإشراف على الأمن القومي واحتكار السلاح وضبط التوازن الأهلي تحت سقف معادلة تعيد إنتاج السلطة من خلال الانتخابات وحقوق الإنسان.
كل هذا صحيح من الجانب النظري. فالدولة صاحبة السيادة ولا شريك لها في القرارات والصلاحيات حتى لا تدب الفوضى وتتمزق أمنيا وسياسيا إلى مراكز قوى تتجاذب سلطتها مجموعة مواقع متنافرة.
الجانب النظري في قاموس الفريق السيادي صحيح في تحفظه الذي سجل مخاوفَ قد تحصل عن التنازل أو التفريط في موضوع الدولة. إلا أن القراءة السياسية لفكرة «كنف الدولة» تقدم ملاحظات لها علاقة بالجانب العملي من مفهوم السيادة. فهذا المفهوم تعرض في المدة الأخيرة لتعديلات دولية أضعفت التعريف الكلاسيكي لمسألة السيادة. فالفكرة من الجانب العملي أصبحت في موقع صعب في ظل عالم يشهد وتيرة متسارعة لموجات متتالية من العولمة. فالعولمة وما تحمله من مفاهيم متضاربة طرحت تحديات عنيفة وعرّضت أمن الدول ومفهوم السيادة لمراجعات دولية زعزعت الأسس النظرية التي توافقت عليها الدول بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وبسبب ضغوط «العولمة» الاقتصادية والمالية والتجارية والأمنية والحقوقية (الجنائية) وغيرها أخذت المفاهيم الدولية (الأممية) تشتد وبدأت تقوى وتعطى صلاحيات استثنائية للتدخل في شئون الدول وسيادتها الوطنية. وأدى نمو القدرات الدولية على التدخل إلى توليد معطيات نظرية تضعف قانونيا تلك الحماية التي استقرت عليها الدول في العقود الستة الأخيرة. وبسبب هذا الدافع العملي الذي يعكس نمو سياسة «التدويل» في العقدين الأخيرين أخذت مفاهيم السيادة تتراجع قانونيا عن التعريف الكلاسيكي من دون أن تتوصل الدول حتى الآن إلى التوافق على صوغ تعريف حديث يتناسب مع تسارع وتيرة «العولمة» وارتفاع حرارة المنظومة القانونية للتدويل. فالقانون لايزال يلعب لمصلحة التعريف الكلاسيكي ولكن الوقائع الميدانية (العملية) تشير إلى نمو نزعة «التدويل» وحق «الدول الكبرى» في التدخل لتصحيح معادلات تمس السيادة.
هذا الجانب العملي في موضوع تراجع مفهوم السيادة وتقدم إجراءات التدويل والتدخل لا يمكن إسقاطه كليا في إطار السجال الايديولوجي الذي انتشر في لبنان بعد التحفظ الذي أبداه الفريق السيادي في فِقرة «الدولة والمقاومة». فالتحفظ صحيح نظريا؛ لأنه يعترض على ازدواجية السلطة (قوة ثنائية) ولكنه يستحق المراجعة وإعادة القراءة حتى لا يخرج السجال عن إطاره القانوني ويتحول إلى معضلة أهلية. ولبنان الذي تعرّض منذ العام 2004 لسلسلة قرارات دولية تطرقت إلى الكثير من النقاط التي تمس مصيره وتوازنه وسيادته يحتاج أكثر من غيره إلى تلك المراجعة التي تعيد النظر في الكثير من القراءات القانونية الكلاسيكية.
أزمة مزدوجة
مفهوم السيادة في عصر التدويل بدأ يتزعزع بعد نمو النزعة التدخلية في الشئون المحلية (الداخلية) للدولة الوطنية. وهذا الأمر يمكن ملاحظته عمليا من دون أن يتطور حتى الآن إلى قانون دولي يلغي التفاهمات الكلاسيكية السابقة.
الملاحظة المذكورة لا يمكن إسقاطها من السجال اللبناني وخصوصا أنها تحتل مكانة مميزة في بلد يعتمد النظام الطائفي ولم تنجح الدولة فيه بالتطور لاستيعاب التنوّع الأهلي واحتكار القوة. فالدولة اللبنانية ليست دولة بحسب التعريف الكلاسيكي لمفهوم السيادة، وهي لاتزال حتى الآن تشكل الطرف الأضعف في معادلة الطوائف. وحين تكون الطائفة أقوى من الدولة في لبنان تصبح مسألة السيادة خاضعة للتأويل والتوافق وربما التدويل باعتبار أن القوة موزعة على ثنائية تأسست على التزامات فرضها الواقع وآلياته الديموغرافية (السكانية) وتوازناته الأهلية.
فكرة «كنف الدولة» صحيحة نظريا. ولكن إضافة الفكرة إلى فِقرة «المقاومة» تحتاج إلى قراءة عملانية تأخذ في الاعتبار مجموعة المتغيرات التي حصلت في العقود الأخيرة وأخذت تلعب دورها في تعديل هوية الكيان وألوانه.
الدولة الآن في منطق السيادة الكلاسيكي (احتكار القوة) غير موجودة في لبنان. والدولة أيضا في منطق القانون ضعيفة؛ لكونها تعتمد على نظام طائفي لا وظيفة له سوى إضعاف مفهوم الهوية الوطنية الجامعة لمختلف التكوينات والأطياف. فقبل إضافة «كنف الدولة» حرصا على مفهوم السيادة لابد أولا من العمل على تكوين دولة تستقر على معادلة قانونية (لا طائفية) صحيحة. «الدولة» قبل «الكنف» ولا معنى لإضافة «كنف الدولة» إذا كانت الدولة عمليا غير موجودة في التعريف الكلاسيكي لمفهوم السيادة.
مشكلة الدولة في لبنان تكمن في نظامها الطائفي. وهذا النظام الذي أضعف الدولة وعطّل نمو الفكرة اللبنانية خلال تسعة عقود من الزمن لعب وظيفته السلبية أيضا فأضعف المقاومة وطنيا وحاصرها جغرافيا في إطار طائفة واحدة. وتطييف المقاومة الذي نتج من طبيعة النظام واعتماده آليا على سيكولوجيات مجموعاته الأهلية أسس مشكلة قانونية في وجه الدولة والمقاومة في آن؛ ما طرح مرارا مسألة التوافق الوطني على استراتيجية الدفاع ومن يملك الحق الحصري للسلاح.
«البيان الوزاري» الذي توافقت عليه حكومة السنيورة الثانية بالإجماع مع تحفظات أدخلها فريق السيادة على فِقرة «الدولة والمقاومة» جاء ليعكس بالضبط تلك الأزمة التي تتمثل في علاقة الدولة بالمقاومة وحدود تلك الصلة الثنائية وصلاحيات كل طرف في تقرير الحرب والسلم في لبنان. فالبيان تجنب الأزمة بعد أن فشل الوزراء في حلها لذلك تضمّن فِقرة تشير إلى المأزق باعتبار أن المسألة تتجاوز القانون (التعريف الكلاسيكي للدولة) وتتصل بالواقع وآلياته العملية التي تضغط أهليا على توازنات الحصص في نظام طائفي. وفي هذا المعنى ربما تكون عدم إشارة «البيان» إلى مفردة «كنف» أفضل لمصلحة الدولة حتى لو تحفظ عنها فريق السيادة.
أزمة المقاومة (ملكية طائفة واحدة للسلاح) تشبه كثيرا أزمة الدولة (عدم قدرة النظام الطائفي على تشكيل هوية وطنية تضمن السيادة). وتشكل هذه الأزمة المزدوجة نقطة ضعف وطنية في المقاومة وثغرة سيادية في جدار الدولة. وهذا بالضبط ما أشار إليه «البيان الوزاري» الذي حدد بأسلوب إنشائي وسياق لفظي وفِقرات ملتوية مأزق الدولة والمقاومة في بلد يعتمد النظام الطائفي في دستوره.
تهرّب «البيان الوزاري» من إضافة «كنف الدولة» إلى الفِقرة زعزع نظريا مفهوم السيادة ولكنه أيضا جنّب الدولة عمليا مسئولياتٍ كثيرة لاتزال محسوبة واقعيا من مهمات «كنف المقاومة». فالتهديدات الإسرائيلية التي صدرت بعد «البيان الوزاري» ضد الدولة في لبنان والغضب الأميركي الذي أشارت إليه الرسائل الرسمية على بيان الحكومة يعطيان فكرة عن التبعات الكبرى التي لاتزال تنتظر بلاد الأرز في معنى «الكنف» لُغويا ونظريا وعمليا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2161 - الثلثاء 05 أغسطس 2008م الموافق 02 شعبان 1429هـ