«البيان الوزاري» الذي يفترض أن توافق عليه الحكومة اللبنانية وترفعه إلى المجلس النيابي للمناقشة والتعديل ثم الإقرار يشكل في مجموعه ترتيب فقرات عامة تتضمن كل النقاط التي يجب معالجتها خلال الفترة المقبلة.
فقرات البيان عامة وهي تحتاج إلى قراءات تفصيلية حتى يمكن تطبيقها بناء على آليات عملية تنقل الأفكار من الورق إلى الواقع. وهذا الاحتمال مستبعد في ظل وجود تجاذبات أهلية لاتزال تفعل فعلها بين المناطق والطوائف والمذاهب.
التفاهم على «البيان الوزاري» استغرق نحو الشهر لوضع صيغه الكلامية بينما التفاهم على تطبيق الفقرات التي وردت فيه يحتاج إلى سنوات من المعالجة يرجح ألا تكون كافية لتطبيقه. فالمشكلة ليست في الكلام وإنما في واقع ممزق سياسيا ويرجح أن يزداد تمزقا باعتبار أن الطوائف المركزية في هذا الكيان الجغرافي لم تتوصل إلى ضمانات دولية وإقليمية تضبط إيقاع علاقاتها الداخلية المضطربة.
العودة إلى فقرات البيان الوزاري ليست مهمة في اعتبار أن المشكلة لا تكمن في الصيغ الإنشائية وإنما تمتد جذورها إلى هيكلية دستورية تتصل باعتماد الدولة على نظام طائفي (المحاصصة المذهبية والمناطقية) يشكل ذاك الإطار الوظيفي للتوازن أو التوزيع أو الفرز الجغرافي لمراكز القوى. وهذا يعني أن الاستقرار اللبناني سيبقى يمر في حالات من القلق الأمني والتسويات الدائمة من دون التوصل إلى حل يوفر الشروط الموضوعية والذاتية لبناء دولة. فالدولة اللبنانية أشبه بشركة عقارية تشرف عليها حكومة هي أقرب إلى مجلس إدارة يرتب العلاقات وفق صيغة طوائفية تتعرض دائما لتعديلات ديموغرافية (سكانية) تضغط أهليا على نظام غير قابل للتعديل.
المشكلة التي واجهها البيان في التفاهم على صيغة إنشائية تضبط علاقة الدولة بالمقاومة تشكل أحد العناوين البارزة للدلالة على استحالة التوصل إلى تسوية قاسية تستطيع احتواء عناصر كيماوية قابلة للاحتراق. وعدم التوصل إلى فقرة واضحة في شروطها يعطي فكرة عن أزمة يحتمل وقوعها بين الدولة والمقاومة في حال التعرض الى عدوان إسرائيلي أو حين تتوصل دمشق وتل أبيب إلى تفاهمات إقليمية بشأن لبنان أو حتى حين تتفاهم واشنطن وطهران على ترتيبات ثنائية قد تمتد من الخليج والعراق إلى بلاد الأرز.
ضعف الدولة وقوة المقاومة وتوزع مراكز النفوذ في المناطق الطائفية والمذهبية تجتمع كلها في فقرات «البيان الوزاري» الذي خرج رسميا في صورة إنشائية تشبه تركيبة «التبولة» اللبنانية التي تتألف من مزيج من الخضار. وهذه «التبولة» التي تعتبر خلطة خاصة من العناصر يمكن التباهي بها على مائدة الطعام ولكنها تصبح معضلة في حال نقلت تركيبتها المختلطة إلى البشر. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال متابعة القراءات النقدية التي صدرت بشأن صيغة التسوية الإنشائية عن علاقة الدولة بالمقاومة. كل فريق قرأ الفقرة من زاويته وحاول قدر الإمكان تطويعها لتتناسب مع مزاج شارعه الأهلي (الطائفي). وحين يكون مزاج الشارع غير متوافق على مبدأ، فمعنى ذلك أن المبدأ نفسه سيخضع لشروط الطوائف والمذاهب ولن يجد ذاك الممر التوافقي الذي يسمح بضبط تلك العلاقة في إطارها اللبناني.
هناك معضلة عملانية بين منطق الدولة ومنطق المقاومة لمجموعة اعتبارات تتعلق بحسابات الربح والخسارة ومضمون العلاقات الإقليمية والدولية والطرف المولج بتنظيمها وموقعه في التوازن الداخلي ودوره في ترتيب المصالح وحماية الحدود وضمان السيادة وأمنها. فهذه النقاط تبدو شبه مضبوطة في «البيان الوزاري» ولكنها ليست كذلك على أرض الواقع في اعتبار أن لبنان ساحة للتجاذبات انكشفت مظلته وانفتحت دوليا وإقليميا على متغيرات يتوقع حصولها في الشهور المقبلة.
المعضلة إذا ليست نظرية وإنما عملانية لكون المشكلة تقوم على سلبيتين: الدولة عاجزة عن احتواء المقاومة والمقاومة غير قادرة على احتواء الدولة. وبسبب هذه المعادلة السلبية تصبح الفقرات التي يمكن التوافق على صيغتها الإنشائية في «البيان الوزاري» مجرد كلام يقال لتقطيع الوقت بانتظار أن تنجلي صورة التفاهمات الثنائية بين دمشق وتل أبيب من جهة وطهران وواشنطن من جهة أخرى. والاتفاقات التي يمكن أن تستقر عليها تلك اللقاءات «الفنية» و«التقنية» و«الإجراءات العملية» ستشكل في مجموعها ذاك الإطار الدولي - الإقليمي الذي يمكن التأسيس عليه موضوعيا لايجاد مخرج لأزمة العلاقة بين الدولة والمقاومة.
جغرافية طوائف
في لبنان الآن الكثير من اللغط عن مشروع فكرة يقترح إعداد برنامج تسووي يقوم على معادلة توزيع المراكز على جغرافية الطوائف (اللامركزية الإدارية) تعطي لكل منطقة جانبها الثقافي وتضمن خصوصية عاداتها وتقاليدها. فمن يريد المقاومة يذهب معها ومن يريد الدولة يبقى معها حتى لو كان الذاهب والباقي من طوائف مختلفة.
هذه الفكرة (كونفيدالية المناطق) التي بدأت بالخروج علنا تنطلق من معادلة المصالحة والامتناع عن التورط في حروب أهلية لا نهاية لها. فأصحاب الفكرة يريدون من وراء طرحها تجنيب لبنان كارثة العودة إلى الاقتتال بين الطوائف والمذاهب والانخراط في سلسلة مذابح تشبه ذاك النموذج الذي أسسه الاحتلال الأميركي في العراق.
الخوف من سياسة التطهير العرقي والطائفي والمذهبي والقتل على الهوية وإبادة الأقليات المعزولة والمحاصرة كما حصل في البوسنة وكوسوفو وبلاد الرافدين أملى على هذا الفريق السياسي التفكير بمشروع لا يؤدي إلى تقسيم لبنان إلى دولتين وإنما توزيعه على منطقين أو مزاجين: الدولة والمقاومة. وفكرة فك الارتباط بين الدولة والمقاومة تشكلت نظريا تحت سقف منطق التهرب من تجنيب لبنان مخاطر الاشتباك بين المنظومتين واحترام خصوصية المكونات الأهلية لكل فريق.
«البيان الوزاري» إذا ليس حلا لأنه يفترض ضمنا أن المشكلة في التوافق على صيغة إنشائية لفقرة «الدولة والمقاومة» بينما هناك معضلة واقعية تأسست سياسيا على أرض الواقع وبعد تجارب دموية مر بها لبنان خلال العقود الأربعة الأخيرة من تاريخه. الانقسام الأهلي الظاهر في الصورة السياسية اللبنانية أقوى ميدانيا من تلك «التوافقات» الإنشائية التي توصلت إليها الحكومة. الفريق الذي يريد المقاومة لا يستطيع الاستغناء عن الدولة لكونها تمثل الراعي الشرعي بحسب مواصفات القانون الدولي للمجموعات الأهلية وكل المكونات والأطياف التي يتشكل منها الكيان السياسي. والفريق الذي يريد الدولة يرى أن هناك صعوبة في التوفيق بين المنطقين نظرا إلى كون المقاومة أصبحت محصورة في طائفة واحدة ولا يمكن استيعابها من دون توترات وربما حروب أهلية. لذلك لجأ بعض أنصار فريق الدولة إلى طرح مشروع يوزع لبنان ولا يقسمه حتى تضمن كل طائفة حقوقها السياسية وحرياتها الثقافية وخصوصيتها الذاتية.
لبنان منذ أربع سنوات يمر في مرحلة انتقالية شديدة الخطورة وهو دخل بعد «البيان الوزاري» في طور وعر في مسالكه وتشعباته، الأمر الذي يفتح أمامه مجموعة خيارات تتجاوز حدود التوفيق بين الدولة والمقاومة. فالمسار التاريخي قطع مسافة زمنية في سياق أزمة مستمرة بدأت بضعف دولة تأسست على قاعدة نظام طائفي وها هي بدأت تدخل في طور عدم القدرة على ضبط علاقتها مع مقاومة تطرح برنامج عمل لا يتوافق مع حجمها وإمكاناتها وجغرافيتها. المشكلة إذا ليست لبنانية فقط، وإنما هي محلية معطوفة على معطيات إقليمية ودولية تتصل بحسابات تتجاوز حدود الكيان السياسي. وحين تكون الأزمة كبيرة ومتفرعة، وتتصل أساسا بغياب استراتيجية دفاع وطنية وعربية توزع المهمات القومية والإسلامية بالتساوي أو بحسب الإمكانات والقدرات البشرية والجغرافية تصبح مشكلة «البيان الوزاري» مجرد فقرات صغيرة تحيط بها تفصيلات خطيرة من مختلف الجهات. فالكيان السياسي يعتمد الطائفية، وحين تكون الطائفية قاعدة النظام يصبح الكلام عن اختلاف منطق الدولة مع منطق المقاومة مجرد نص بياني يفتقر إلى المنطق.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2160 - الإثنين 04 أغسطس 2008م الموافق 01 شعبان 1429هـ