اللغة تقدمنا إلى الناس قبل أسمائنا... نتكلم أمام بشر نلتقي بهم للمرة الأولى وكأننا نحمل إليهم أسماءنا وتواريخنا لمجرد أن نتكلم... يكوّنون صورة مقرّبة عنا ويختزلون في ذاكرتهم تاريخا مرتبطا بنا من دون أن يعرفونا... من دون أن نلتقي بهم قبل هذه اللحظة.
لا تقدمنا ملابسنا أو عطورنا أو ماركات الساعات التي تزيِّن معاصمنا أو السيارات الفارهة. ما يقدمنا إلى الناس وبصورتنا الحقيقية ومن دون رتوش أو إضافات أو مساحيق، هي اللغة التي نتواصل بها مع البشر من حولنا، وليست اللغة من حيث هي نظام إشارات أو اتصال، بقدر ما هو نظام اتصال في اختزال ما نريد قوله في أقل قدر من الكلام وأعمقه. هي في استشراف اللغة لمستويات ما يدور من حوار ضروري وملحّ مما يجب أن يحضر ويسود ويقال.
وحين تتحول اللغة إلى ستعراض في العلاقات يسهم صاحبها من حيث يريد أو لا يريد في تأكيد طغيان القشر وتغييب العمق/اللب/الجوهر... فالعلاقات لا تحتمل أي نوع من أنواع التصنّع والاستعراض... هي تقوم وتثبت وتتعزّز وتخلد بمزيد من العفوية والصدق والفطرة، من دون خلوّها من عمق.
السياسيون يحتكمون إلى لغة التبرير والنفي، وبما يعزّز ويكرّس ما يتطلعون إليه من أهداف، وبعض الدينيين الموتورين من حركة الحياة وانفلاتها يحتكمون إلى لغة يعتقدون أنها ستعيد نصاب ذلك الانفلات إلى حال من التوازن... والعبثيون يتركون اللغة في مهب من المتاهات واللاجهات.
هل هو تماما ما رمى إليه حائز نوبل للآداب العام 1998، البرتغالي خوزيه سارماغو، حين أشار إلى «أن اللغة تكاد تموت كل يوم؟». ولا يحدث ذلك إلا بتقديمها على أنها تمثلنا... تمثل صورتنا... أسماءنا... وربما تاريخنا، فيما هي على النقيض من ذلك.
بلاغة الحركة
على طريقة النعي العربي المعهود، تضيع مساحة الوقوف أمام الذات وأمام تراكمات عام مضى، تدرّعا بآمال في الأفضل، مع سيل من المديح المبطن للعام الجديد، ولكن المستقبل لن يجامل أحدا، وخصوصا الكسالى والتنابلة والمخمورين بأوهامهم، وحركة الحياة وعمارها لا تتم بأدوات بلاغية، ومواجهة أعبائها لا تتحقق بديباجات لغوية، وإدمان على مواقف الفرجة. لا تتم إلا ببلاغة الحركة، وفعل المبادرة، وبيان الإنجاز على الأرض، والمواجهة الصريحة للمعوِّقات ومحاولة تجاوزها، ما قدّر للإنسان ذلك.
كل شعوب الأرض لها لبن مسكوب، وقليل منها الذي لايزال غير مقتنع بعدم جدوى البكاء عليه، وظل ماضيا في طقوسه وبشَرَهٍ غريب وشهية غير مسبوقة، ولكن في نهاية المطاف سيضمحل وجوده وحراكه كما اضمحل وتلاشى في التراب اللبن المسكوب!
نعلم أن منطق الأشياء له خروج مشروع أحيانا على القواعد، وخصوصا أننا إزاء حركة الحياة نفتقد في كثير من الأحيان الأدوات التي تساعد على فعل المواجهة المثمرة التي تراكم الدور والتأثير في مجريات الحراك الإنساني، ولكن انعدام تلك الأدوات له أسبابه وعلله ولن تكون بمنأى عنّا نحن المطالبين بخلق تلك الأدوات والمعنيين بشكل مباشر بتلك الأسباب والعلل، وإن أي غض للطرف عن البسيط من تلك المسلمات هو إمعان في الذهاب إلى التيه الذي يهرب منه كثيرون فيما نحن نرسم وندشن الخرائط له!
بين النقد والتواطؤ
لا نقد يمكنه أن يكون مطّلعا بدوره ومُفعّلا لأدواته كما يجب، وهو في الوقت نفسه يشيح بنظره بعيدا عمّا يعتري المجتمع من خلل ومثالب وتجاوزات وظواهر تحولت إلى أمراض، وما لم يُدخل المجتمعَ ضمن المساحات التي يحق له أن يكون متواجدا فيها، مُفكّكا، فاضحا، مدلاّ، متوغّلا، سيتحول عندها إلى زائدة دودية، يصبح استئصالها أسلم من الإبقاء عليها.
بهكذا نظر إلى النقد، يظل جانب منه عاجزا عن أداء دوره المنوط به، وهو بذلك في كثير مما يصدر عنه محض انشغال بالضوضاء المخرّبة لحفل موسيقي، فيما النيران في الجانب الآخر من المكان تلتهم المداخل المؤدية إليه، ولا يحرك ساكنا.
وكل نقد يُهمل طبيعة نظر وتعامل السلطة مع الإنسان كمصدر ومنبع للأشكال المحرضة على الجمال والخير والعدالة، هو في الصميم من التواطؤ على الإنسان نفسه وعلى القيم التي تصدر عنه.
ثمة نقد يضع قدما ويؤجل أخرى في طريق ممارسة دوره، ولن يكون من المفاجئ أن يلقي بالمسئولية - وببلاغة كاذبة - على أشكال تعبيرية ليس ذلك دورا، إذ في مرحلة الخراب لا يجدي أن تكلّم الخراب رمزا، لأنَّ من طبيعته الغباء، وكل خراب غباء، وكل شكل تعبيري - عدا النقد - يتوهم القدرة على القيام بذلك الدور، هو في العمق من ذلك الغباء، وما لم يضع النقد سبّابته في عين ذلك الخراب، هازّا لمفاصله، يصبح من الأفضل له التفرغ لكتابة أناشيد طابور الصباح.
نقدٌ مساحة المسكوت عنه، والمؤجل على أجندته أضعاف ما يقترب منه، لا يتجاوز كونه مقاتلا أحيل إلى التقاعد من دون أن يطلق رصاصة واحدة حتى في الهواء.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 2160 - الإثنين 04 أغسطس 2008م الموافق 01 شعبان 1429هـ