العدد 2159 - الأحد 03 أغسطس 2008م الموافق 30 رجب 1429هـ

حي الشجاعية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حي الشجاعية في غزة الذي شهد حملة اقتحامات ومواجهات دموية ذات طابع عائلي بين «حماس» و «فتح» أعطى براءة ذمة لحكومة إيهود أولمرت المتهالكة وأظهر أمام العالم أن الاحتلال أكثر رأفة من قوى السلطة والمعارضة في القطاع.

المشهد المأسوي في غزة كشف عن طبيعة السلطة التي تريد «حماس» تأسيسها في القطاع. والمشهد الدموي لا يمكن تبريره حتى لو كانت الذريعة ملاحقة مجموعة مسلحة اتهمت بأنها تقف وراء التفجير الذي طال مراكز ومنازل تابعة لقيادات تنتمي سياسيا لحركة «حماس».

ما حصل في الشجاعية فاق الوصف من جانب الإفراط في استخدام القوة العسكرية أو من جانب صدور تصريحات من الطرفين تبودلت فيها اتهامات الخيانة والعمالة. فالكلام عن الخيانة والعمالة كان قنابل دخانية للتغطية على مسألة الصراع على السلطة والتنافس على الإمساك بالقرار الميداني في ظل حصار إسرائيلي يطوِّق القطاع من جهات ثلاث.

انفجار العنف في حي الشجاعية أنتج مواجهة فاضت عن قدرة القطاع على تحملها فاضطرت عائلات وأسر إلى الهرب واللجوء عنوة إلى الطرف الإسرائيلي الذي أطلق الرصاص على بعضهم واعتقل بعضهم وعالج بعضهم وأعاد تسليم بعضهم إلى سلطة «حماس» لتعيد اعتقالهم. ويشكل هذا المسلسل من الحلقات وحدة صورية تعطي فكرة عن الكارثة السياسية التي وصل إليها حال القطاع بعد انقسام السلطة وتوزعها إلى حكومتين.

حي الشجاعية في قاموس الاحتلال الإسرائيلي يعتبر الأسوأ في شجاعته ورمزيته وصموده خلال عقود من المواجهات. فالشجاعية كانت البداية ومنها انطلقت الشرارة التي أعلنت عن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987. فمن الحي بدأت انتفاضة الحجارة وأخذت تمتد الشرارة وتنتقل إلى أن انفجرت تلك الثورة المدنية في مواجهة الاحتلال المسكوت عنه دوليا. حي الشجاعية كان الشرارة الأولى واستمر يشكل على امتداد سنوات الانتفاضة تلك النواة الصلبة التي عجز الاحتلال عن كسرها إلى أن اعترفت تل أبيب بفشلها ودخلت في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني لترتيب علاقات تعطي الشعب حقه في إدارة شئونه.

منذ تلك السنوات تحول حي الشجاعية إلى رمز فلسطيني لمشروع العودة والدولة. فالانتفاضة الأولى التي اندلعت من الحي في العام 1987 ساهمت في تذكير العالم بالقضية وأن الاحتلال لا يتردد في قتل الأطفال. ومشاهد انتفاضة الحجارة التي تناقلتها وكالات الأنباء في العالم لاتزال خصبة في الذاكرة لكونها شكلت قوة ضغط إعلامية أثارت عاصفة من الاحتجاجات في عواصم الغرب ومدنه وأخذت مع الأيام تشير إلى وجود قيادة فلسطينية في الداخل لا تقل قوة وتأثيرا من تلك التي تعيش في المنفى.

أهمية انتفاضة 1987 التي اندلعت من حي الشجاعية تتركز على نقطة أساسية وهي أن الشعب الفلسطيني في الداخل يشكل مركز الثقل ومنه يجب أن تنطلق الثورة المدنية والعصيان ضد المحتل. الانتفاضة الأولى عكست الصورة، فبعد أن كانت المخيمات الفلسطينية الموزعة في أحياء وعواصم ومدن دول الجوار (عمان، دمشق وبيروت) تمثل القوة السياسية التي تنتج الأحزاب والفصائل والمجموعات المسلحة لتقوم بعمليات عسكرية عبر الحدود الفاصلة أو على «القشرة» الجغرافية التي تعزل فلسطين عن المحيط العربي، بدأت الأحياء والمخيمات والقرى والبلدات والمدن الفلسطينية في الداخل تتحرك شعبيا ضد الاحتلال مباشرة.

أبناء أطفال الحجارة

هذا الانقلاب الذي أحدثته الانتفاضة الأولى التي اندلعت شرارتها من حي الشجاعية في العام 1987 ساهم في تعديل زوايا الصورة حين نجح في نقل مركز الثقل من الخارج (دول الجوار والمنافي) إلى الداخل. ومنذ تلك اللحظة باتت القيادة الفلسطينية الموزعة بين عمان ودمشق وبيروت وتونس تتحرك دوليا تأسيسا على تلك الحركة المدنية التي اندلعت في مواجهة الاحتلال وأخذت تمتد وتتطور وتشتد في الضفة والقطاع إلى أن اعترفت تل أبيب بحق العودة وسمحت لرموز منظمة التحرير وفصائلها بالانتقال من منافيهم إلى أرضهم في سياق تفاهمات نصت على اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس خلال مدة زمنية لا تتجاوز السنوات العشر.

كل هذه المتغيرات حصلت انطلاقا من حي الشجاعية الذي افتتح اشارة البدء في تعديل زوايا الصورة الفلسطينية وإعادة إحياء قضية تعرضت لملاحقات ومواجهات وحروب كان آخرها احتلال لبنان ومحاصرة بيروت وإخراج القوات المسلحة منها وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا في العام 1982. آنذاك اعتبرت تل أبيب أن الثورة انتهت وأن قضية فلسطين لن تقوم لها قائمة بعد غزو بيروت. وبدأت حكومات «إسرائيل» تتحرك دوليا على أساس أن حق العودة انتهى ولابد من توطين المشردين في المنافي وأن الاحتلال بات حقيقة واقعية لا يمكن التنازل عن ثوابتها.

الانتفاضة الأولى التي اندلعت شرارتها من حي الشجاعية حطمت تلك القناعات الأيديولوجية التي توصلت إليها تل أبيب بعد خروج قادة المقاومة من بيروت وتوزع قواتها على الشتات في عواصم عربية مختلفة. وأدى العصيان المدني في الداخل الفلسطيني إلى توليد قوة صلبة ساهمت في نقل القضية مجددا إلى أعلى المنابر العربية والدولية فأعلن ياسر عرفات على أساسها ولادة «الدولة» في العام 1988. ومن فكرة مشروع الدولة أخذت القيادة في الخارج تتحرك عالميا على إيقاع انتفاضة الحجارة... وصولا إلى السماح بعودة الفصائل إلى غزة والضفة للبدء في تأسيس الدولة وتحويلها من فكرة مشروع إلى مؤسسات تعمل ميدانيا على الأرض وصولا إلى الانتهاء من بناء هياكلها.

مشروع الدولة الفلسطينية فشل وهو لايزال حتى الآن يعاني من الفوضى والاضطراب لمئة سبب وسبب... إلا أن حي الشجاعية استمر يحفر رمزيته في الذاكرة العربية لكونه شكل النواة الصلبة التي تفرعت منها شجرة الانتفاضة وتوزعت فروعها من قطاع غزة إلى الضفة الغربية والقدس.

هذه الرمزية شكلت شوكة سياسية خطط الاحتلال كثيرا لكسرها وتحطيمها وتسخيفها وإذلالها حتى تتلاشى من الذاكرة وتسقط من كتب التاريخ. فالرمزية عند الشعوب مسألة مهمة وهي عادة تشكل تلك المحطات التي يمكن البناء عليها لتأسيس قراءات تعتمد على الذاكرة لإعادة إنتاج بدائل واقعية تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. وهناك الكثير من الإشارات الرمزية عند الشعوب تفقد معناها بفعل امتداد الزمن وتتحول إلى خرافات لا قيمة لها حين تسقط من الذاكرة أو حين تهتز صورتها وتتمزق وتداس. وتمزيق الرمز الذي بدأ في القطاع بدوس كوفية عرفات (أبوعمار) يتواصل الآن في دوس الحي الذي انطلقت منه الشرارة الأولى.

رمزية حي الشجاعية أصيبت بضربة دموية من الداخل حين تهشمت تلك الصورة تحت وقع ضربات فصائل المقاومة... وربما أبناء أطفال انتفاضة الحجارة.

21 سنة مضت على تلك الشرارة الأولى التي اندلعت في حي الشجاعية وبدأت منها الانتفاضة بالتوسع والامتداد إلى أن كان ما كان. الآن وبعد تلك السنوات الطوال جاء «أبناء الأطفال» ليحاصروا الحي ويردموه بالحجارة. إنها مأساة. وأفظع ما فيها تدخل الاحتلال بالنار من جهة وبالأدوية من جهة أخرى حتى تنحرف الأنظار عن الرمز وتتجه نحو الداخل لتعيد ترسيم تلك الحدود التي تفصل السلطة عن المقاومة وتجدد الاقتتال بين أهل يبحثون عن سلطة وسلطة تبحث عن أهل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2159 - الأحد 03 أغسطس 2008م الموافق 30 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً