العدد 2159 - الأحد 03 أغسطس 2008م الموافق 30 رجب 1429هـ

التيارات اليسارية ومعضلة «الذكاء السياقي»! (2 - 2)

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

تواصلا مع ما طرحناه في مقالنا السابق «التيارات اليسارية ومعضلة الذكاء السياقي! (1 - 2)» بشأن تفوق التيارات «الإسلامية» على التيارات اليسارية والتقدمية في مستويات «الذكاء السياقي» المتجلي في الحراك السياسي الداخلي، وبالإضافة إلى استعراض مفهوم «الذكاء السياقي» كما تناوله المفكر الاستراتيجي الأميركي جوزيف ناي في كتابه «القوى من أجل القيادة «، فإننا سنتطرق في هذا المقال وبشكل موجز للأبعاد الرئيسية والمتعددة لمفهوم «الذكاء السياقي».

ولعل أول هذه الأبعاد هو ما يتعلق بـ «فهم السياق الثقافي»، حيث استهل المؤلف هذا البعد بوضع تعريف للثقافة وهو «النموذج السلوكي المتواتر الذي تُوصِل الجماعات عبره المعرفة والقيم» إذ يشير من خلاله إلى أن «الثقافة والقوة وجهان لعملة واحدة، فكما القادة يلعبون دورا كبيرا في خلق الثقافة حينما يكونون الجماعات والمنظمات، فإن الثقافة أينما وجدت تضع شروط تحديد وصنع القائد المثالي والملائم» ويرمي المؤلف من ذلك الطرح إلى التأكيد على أن الجاذبية و «الكاريزما» التي قد يتمتع بها قائد من القادة هي في النهاية منتج ذو محددات وخصائص ثقافية مرتبطة بسياق معين.

ويذكر المؤلف مثلين حيين ومقارنين لتجربة تنظيمين سياسيين في المكسيك أحدهما ناجح اجتماعيا والآخر مخفق، حيث ظهر في التسعينات في المشهد السياسي المكسيكي تنظيمان يحملان الهدف ذاته بالدعوة إلى تحسين ظروف الهنود القرويين وهذان التنظيمان هما «جيش التحرير الوطني الزاباتي» و «الجيش الثوري الشعبي»، وفي حين حقق التنظيم الأول نجاحات نسبية ملحوظة تحت إمرة قائده ماركوس وهو أستاذ جامعي سابق قضى عقدا من حياته في الغابة، ولعب دورا رئيسيا في تغيير أيديولوجية المجموعة واستراتيجيتها لتلائم الرؤية العالمية تجاه الشعب الهندي، كما ساعدته خلفيته كأحد أبناء الطبقة الوسطى ودفعته إلى إعادة تشكيل خطابه وتكتيكاته لتنال استحسان وقبول الجماهير البعيدة.

أما بالنسبة إلى التنظيم الثاني وهو «الجيش الثوري الشعبي» الذي أخفق في الانسجام مع المجتمع فقد فشل القادة في تحقيق التكيف الاجتماعي لأيديولوجيتهم الماركسية مع الثقافة المحلية والثقافة السياسية الجديدة لرؤوس الأموال الإعلامية في حقبة ما بعد الحرب الباردة!

وينبه المؤلف إلى أن التعرف على ثقافة المؤسسات وبيئات العمل المختلف أو ما يسمى بالثقافات الفرعية «Microcultures» يعد أمرا ضروريا، فيستحضر مثلا من الولايات المتحدة الأميركية يقارن فيه بين طبيعة وثقافة العمل المؤسساتي الاستخباراتي لمنظمتي «الإف بي آي» و «السي آي ايه»، ففي حين تعمل «الإف بي آي» على فرض القانون والحصول على المعلومات لتمكنها من رفع دعاوى للمحاكمة والإدانة، فإن «السي آي ايه» تنطلق في عملها بمعالجة المعلومات كدفق متواصل لتقوم بحمايتها بغرض استخدامها في عمليات الرصد والتحذير المستقبلية.

ويؤكد المؤلف أن الثقافة ليست أمرا ثابتا وإنما هي تتغير باستمرار ويضرب مثلا على ذلك في اليابان حينما كان المظهر العسكري والخطاب القومي في حقل السياسة جذابا للغاية في الثلاثينات والآن أصبح مثيرا للقلق والامتعاض، ويستعرض أساليب إدارية أوروبية تعكس ثقافات متعددة ومتباينة بين نمط «توجيه السوق الإنجليزية» وأسلوب «فعالية الماكينة الألمانية» و «التوافق والإجماع الاسكندنافي» و «البنى الهرمية الفرنسية»، ويرى المؤلف أن اجتماعا مدته ساعتان في ألمانيا قد يأخذ يوما كاملا في جنوب إيطاليا!

أما في ما يتعلق بالبعد الثاني وهو «توزيع موارد القوة» فيبيّن المؤلف أنه يتعلق إجمالا بـ «القدرة على تقدير مستوى توزيع موارد القوة في المجموعة» حيث يرى أنه «لا ينبغي على القادة فقط إدراك الثقافة السياسية للمجموعة وإنما عليهم أيضا تقدير مدى ارتباط تلك الثقاقة بشبكات وتوزيع موارد القوة الصلبة والناعمة المتوافرة وكلفة استخدام كلٍّ منها»، كما يشدد على ضرورة أن يسعى القادة إلى أن يقدروا إن كانوا في وضع تشريعي أو تنفيذي، إذ إن في حقل الثقافة التشريعية يهم إدراك القدرة على تقدير أدنى المعايير لصنع التحالف الناجح.

وبالإضافة إلى ذلك تندرج ضمن البعد ذاته ضرورة فهم وإدراك المصادر التي تأتي منها السلطة (Authority) إلى جانب فهم السياق السلطوي، والسعي إلى تقدير قوة الولاءات في الجماعات الصغيرة والمجتمعات المتخيلة (Imagined Communities)، كما ينبغي على القادة فهم بنية الشبكات في السياق الذي يعملون فيه وإدراك ماهية الخيارات المتاحة للآخرين للوجود والصوت والولاء ومدى تأثيرها على قوتهم، إلى جانب فهم الحوافز الموجودة وثقافة اللعبة عموما، ولعل الأهم من ذلك بالنسبة إلى المجتمعات الديمقراطية هو إدراك الفرق بين ثقافة السياقات العامة والسياقات الخاصة.

وفي البعد الثالث من أبعاد «الذكاء السياقي» وهو «احتياجات ومطالب الأتباع» فالمؤلف يطرح أسئلة كبرى يرى ضرورة أن يهتم بها القادة ويحاولوا تقدير إجاباتها قدر الإمكان وهذه الأسئلة تتعلق بالقدرة على رصد الحاجات والمطالب المتغيرة للأتباع المحتملين، وما هو مدى شعور الشعب بحاجته إلى التغيير؟ وما هي نوعية التغيير الذي يحتاج إليه الشعب؟ كما من الضروري على القادة تشخيص ما هم بحاجة إليه لتشجيع الأتباع على دخول عملية تغيير مؤلمة وشاقة، وإدراك المنابع التي ستتفجر منها المقاومة والرفض لهذا التغيير مع القدرة على التعرف على الرسائل المقنعة شعبيا للقبول بالتغيير!

وضمن هذا البعد يستشهد المؤلف برؤى البروفيسور بجامعة يال الأميركية فيكتور بروم تجاه «السياقات السلطوية» و «المديرين السلطويين» حيث يرى أنه «ينبغي أن تكون لدى القائد القدرة على التأقلم بين دوره السلطوي ودوره المساهم فيه مع الجميع».

وبخصوص البعد الرابع ففيه «إدارة المخاطر والأوقات الحرجة» حيث يرى المؤلف ضرورة أن توجد لدى القيادة الملَكة التقديرية لنوعية الأزمات وحجمها وفهم مختلف الوضعيات السياقية التي تحدد وفقا لها نوعية أسلوب معالجة الأزمة أكانت أزمة حساسة جدا وطارئة أم أزمة نامية ببطء، وهنالك ثلاثة إجراءات احتياطية لابد من توافرها في الحسبان حين التعامل مع الأزمات وهي تتعلق بالاستعداد الذهني، والقدرة على الاحتفاظ بالهدوء ورباطة الجأش على رغم التوتر والقدرة على التواصل.

كما يشير المؤلف إلى أن إدراك الأزمة يساعد على تحديد النمط الإداري والتشكل السلطوي للبنية الإدارية الهرمية من أجل تقدير فعالية معالجة الأزمة والتعامل معها، وهو يساعد بالتالي على تحديد خيارات استراتيجية ضرورية في التعامل مع الإعلام والمحيط الخارجي، ناهيك عن ضرورة أن يخلق القادة «نظام ما قبل الأزمة» الذي يدرك من خلاله كيفية التعامل مع الأزمات بشكل استباقي مع مسبباتها قبل أن تتطور إلى الأسوأ.

وفي ما يتعلق بالبعد الأخير من أبعاد الذكاء السياقي وهو «تدفق المعلومات» فهو قد يعتبر أحد أكثر الأبعاد أهمية، إذ يتم في نطاقه التأكد من شكل ومستوى وكيفية وصول المعلومات إلى الأتباع والمناصرين والجماهير ومدى ملاءمتها للأهداف المرسومة، كما هو يرتبط عموما بواقع التواصل وتبادل المعلومات ضمن المؤسسة أو المنظمة ذاتها بين الأعضاء والقيادة!

ما هي مستويات الإدراك الذكي والتعامل المرن مع هذه الأبعاد المذكورة آنفا لدى قيادات التيارات اليسارية والتقدمية في مشهدنا المحلي والإقليمي؟!

هل يستقيم اكتناه هذه الأبعاد مع عبثية المشهد المحلي الحالية، ومع ما تقوم به التيارات اليسارية والتقدمية الوطنية من «قرقاعون» سياسي أو من تصفية للقضايا الوطنية في مزادات ردود الأفعال الآنية، إذ هي أول من يقع في «شداخات» السلطة كما هم «اليعاقبة» في «وعد - إبراهيم شريف»؟!

بالنسبة إلى الإخوة الأفاضل في»وعد - إبراهيم شريف» فقد يبدو لنا أن «الذكاء السياقي» بأبعاده المختلفة إنما ينحصر ويقتصر في النهاية على مشتقات حراك كلاسيكي بالغ العتاقة منذ الستينات، أو هو يستحضر ويستجلب بالعض على «باسشيلة» تنظيم «الوفاق» في خضم الأمواج المتلاطمة، ولو كانت النتيجة تكسر أسنان «وعد» لا قدر الله وعدم انثناء تلك «الباسشيلة»!

على التيارات اليسارية والتقدمية والديمقراطية الوطنية وخصوصا «وعد - إبراهيم شريف» أن تدرك في النهاية أن السلطة لن تكترث بسجلاتها الحافلة وتجاربها التاريخية العريقة والتي تعتبرها السلطة «الكتاب الأسود»، وإنما السلطة في أية عملية واستراتيجية تفاوضية هي تأخذ في اعتبارها حجم ونوعية «الشرائح الاجتماعية» التي تمثلها هذه التيارات ومدى تموضعها الطبقي وحضورها المؤسساتي والتنظيمي في الدولة ضمن متطلبات السياق والمرحلة الحالية، وعلى ذلك تبني وتضع السلطة قراراتها الاستراتيجية!

فمتى ستتخلى التيارات اليسارية والتقدمية والديمقراطية الوطنية عن واقع ومحيط اجتماعي متقلص أشبه بـ «الكيبوتز» أو المزارع الجماعية الاستيطانية إبان نشأة «إسرائيل»، لتتخلص من شذوذها السياقي ذاك، وتنسخ روح تضحياتها وآمالها بروح وقيم المجتمع البحريني التي لا تتضاد جوهريا معها؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2159 - الأحد 03 أغسطس 2008م الموافق 30 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً