انتهت الجولة الرابعة من المباحثات السورية - الإسرائيلية التي بدأت الثلثاء الماضي في تركيا وسط تكهنات عن احتمال تمديد الهدنة على خطوط الجولان المحتل. وستبدأ السبت المقبل المفاوضات الإيرانية - الأميركية الجارية تحت مظلة أوروبية وسط توقعات تشير إلى موافقة طهران على صيغة «الحوافز» مقابل التوصل إلى حل لغوي لمسألة التخصيب. وتقضي الصيغة المقترحة بأن تعلن إيران عن الاستمرار في تجميد البرنامج الصناعي أو عدم تطويره وعدم التوقف عن تواصل البحث العلمي (النظري) في مجال التخصيب.
الأسبوع المقبل سيكون حاسما في توضيح معالم التوافقات والاتجاه الذي ستسير نحوه تلك المفاوضات والمباحثات واللقاءات. فالجانب الأميركي يريد الإعلان عن التوصل إلى «شيء ما» في أسرع وقت حتى تستطيع إدارة جورج بوش توظيفه في الداخل لتحسين فرص المترشح الجمهوري جون ماكين على منصب الرئاسة. سورية من جانبها تطالب بالتمهل وعدم الإسراع في الإعلان عن التوصل إلى نتائج قبل الأوان. وترى دمشق أن الظروف غير ناضجة بعد وتحتاج إلى مزيد من المباحثات حتى تستطلع كل الاحتمالات وخصوصا تلك المتعلقة بمغادرة إيهود أولمرت مكتبه في منتصف سبتمبر/ أيلول المقبل وانتخاب بديل لقيادة حزب «كاديما» ولرئاسة الحكومة الجديدة. إيران أيضا تفضل عدم التسرع في الإعلان عن نتائج حتى تتأكد من إمكان حصول مقايضة بين وقف «البرنامج الصناعي» مقابل وقف العقوبات.
مسألة التوقيت مهمة من طرف إدارة واشنطن في اعتبار أن موضوع النجاح في إعادة ترتيب أوراق «الشرق الأوسط» تشكل خطوة تساعد على تذليل العقبات في الداخل وتفتح الباب أمام ماكين للتحرك تحت سقف يضمن للحزب الجمهوري مادة للدعاية والاستهلاك والتسويق في وجه منافسه الحزب الديمقراطي. وهذا الأمر يتطلب الإسراع في التوصل إلى «تفاهمات» و «صفقات» حتى تكون الإدارة الأميركية مستعدة للدفاع عن مشروعها الذي استنزف الخزينة العامة وأرهق الموازنة القومية ودافع الضرائب.
مسألة الوقت ليست مهمة كثيرا للجانبين السوري والإيراني. فدمشق أبدت حرصها على نجاح المباحثات أكثر من توقيت الإعلان، لذلك اتجهت إلى التفاهم على خطوط عريضة واقترحت تأجيل المباحثات إلى فترة أطول في اعتبار أن احتمال عقد اتفاق سلام يحتاج إلى مزيد من التفاوض حدد مدتها الرئيس بشار الأسد بين ستة أشهر وسنتين. وهذا يعني أن دمشق تفضل أن تتعاطى مع إدارة جديدة قادرة على التعامل بجدية مع الملفات بدلا من «بيع» مواقف لإدارة تستعد إلى مغادرة مواقعها في فترة تقل عن نصف سنة.
إيران أيضا ليست في سباق مع الزمن لكون قيادتها تستعد إلى خوض انتخابات رئاسية في ربيع العام 2009 وهي تحتاج إلى مزيد من الوقت المعطوف على مكاسب قد تبدأ بالظهور إيجابيا على الاقتصاد في حال جمدت «العقوبات» وتم احتواء الأزمة.
الاختلاف على التوقيت قد يشكل نقطة توتر ترفع من نسبة قلق إدارة أميركية تحتاج إلى مكاسب لتعزيز صدقيتها في تعاملها الداخلي مع الجمهور الانتخابي. ولعل هذه الحاجة تضغط على واشنطن وتدفعها نحو الإعلان عن التوصل إلى تفاهمات مبدئية من دون اضطرار للبدء في التنفيذ.
وقف التنفيذ
صيغة «التفاهم مع وقف التنفيذ» يمكن أن تكون ذاك الإطار المطلوب الذي يتناسب مع الاتفاق على مخرج يتسع لمختلف الأطراف. ومسألة «وقف التنفيذ» تلبي أيضا حاجة تل أبيب لكسب المزيد من الوقت إلى نهاية عهد الرئيس جورج بوش. فالرئيس بوش التزم بتعهدات شكلية (اتفاق سلام فلسطيني مع إعلان قيام دولة قابلة للحياة) ولا يستطيع التراجع عنها لفظيا على رغم أن وزيرة خارجيته أبدت عدم ثقتها باحتمال التوصل إلى اتفاق ثنائي فلسطيني - إسرائيلي قبل نهاية السنة.
مصلحة تل أبيب تتوافق أيضا مع سياسة تأجيل الإعلان عن التوصل إلى تفاهمات سواء مع الجانب الفلسطيني أو السوري. فالدولة العبرية مقبلة بدورها على متغيرات بعد 15 سبتمبر ويمكن أن تؤدي إلى الإعلان عن انتخابات مبكرة يرجح أن يفوز بها حزب «الليكود» الذي يحمل أجندة مغايرة لتلك التي يقول بها التحالف الثنائي الوزاري القائم الآن بين العمل وكاديما.
الجانب الفلسطيني أيضا مقبل على تحولات منظورة وغير منظورة. وما هو ظاهر في الصورة أفضل من تلك الزوايا الخفية. فالظاهر يشير إلى أن رئاسة محمود عباس ستنتهي دستوريا في يناير/ كانون الثاني 2009 ويرجح ألا تتجدد في ظل الانقسام الفلسطيني المترافق مع إحباط شديد تعرض له عباس خلال تلك المباحثات التي أشرفت عليها واشنطن وانتهت إلى تغطية بناء المزيد من الوحدات السكنية في القدس وتوسيع عشرات المستوطنات في الضفة الغربية. والباطن من الصورة يمكن رصده من خلال احتمال تطور المشاحنات بين «حماس» و «فتح» وانتقالها إلى سلسلة مواجهات سياسية في الضفة على غرار ما حصل في قطاع غزة. هذا الوجه الخفي من الصورة يمكن أن يعطي ذريعة قوية للحكومة الإسرائيلية المقبلة بالانسحاب من المباحثات وتحميل الطرف الفلسطيني مسئولية الفشل بسبب ضعف السلطة وعدم قدرتها على مد نفوذها وبسط سيطرتها.
هذه التطورات القريبة والبعيدة تلبي حاجة تل أبيب للتهرب من التزامات غير قابلة للتنفيذ. وبما أن التطورات تحتاج إلى وقت حتى تتبلور ميدانيا فإن أولمرت يتجه إلى رمي الكرة في ملعب الحكومة المقبلة حتى تأخذ فرصتها وتتحمل مسئوليتها نيابة عنه.
«وقف التنفيذ» المعطوف على شراء المزيد من المهل الزمنية يمكن أن يتحول إلى سياسة متوافق عليها من مختلف الأطراف باستثناء الجانب الفلسطيني الذي يرجح أن يكون الأكثر تضررا من كل الجهات المعنية.
مسألة الوقت إذا تلعب دورها في صوغ التوجهات وضبط الأعصاب. فالمفاوضات تحصل في الوقت الضائع وعامل الزمن يفتح الباب على مشكلة. بوش يريد الإسراع لأنه يريد شراء اختراقات واستثمارها في عهده لتعطي مكاسب انتخابية لمترشح حزبه ماكين. عباس يضغط باتجاه التوصل إلى الإعلان عن تفاهم بشأن مشروع دولة ولكنه بات يدرك بأن عامل الوقت لا يعمل لمصلحته في لحظة بدأ خلالها أولمرت يستعد لمغادرة مكتبه. دمشق ترى أن الوقت يعمل لمصلحتها فهي تفاوض تل أبيب على ملفات سياسية ليست بالضرورة متصلة بالجولان وفي الآن تنتظر الانتخابات الأميركية للتعرف إلى الهيئة التي ستدير واشنطن في فترة السنوات الأربع المقبلة. طهران أيضا تعتبر أن الوقت يتجه نحو تعزيز موقعها التفاوضي مع واشنطن التي تبحث عن مخارج تضمن أمن قواتها في المدة التي ستنص عليها «الاتفاقية الأمنية» مع بغداد. وهذا يعني أن طهران مستعدة للمساعدة في الملف العراقي مقابل تعهدات تضمن نظامها ودورها وتسقط احتمال انحراف أميركا مجددا نحو الخيار العسكري.
هذا التجاذب المصلحي يعطي أهمية لعامل التوقيت. بوش يريد الإعلان عن تفاهمات في أقرب فرصة وقبل المناظرات الحزبية التي ستبدأ جولتها الأولى في 26 سبتمبر. دمشق تفضل تأجيل الإعلانات إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستعقد في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني. طهران تريد الاحتفاظ بحق التخصيب مع كسب «الحوافز» حتى تتفرغ لمعركتها الداخلية في الشهور التي تسبق الانتخابات الرئاسية. تل أبيب لا تريد تقديم أي تعهد للرئيس عباس في مرحلة تشهد اهتزازات فلسطينية يرجح أن تزعزع استقرار السلطة. والبديل الإسرائيلي عن أولمرت لن يكون في موقع سياسي يسمح له بالتفاوض مع رئيس فلسطيني يستعد لتوديع منصبه في مطلع السنة الميلادية المقبلة.
كل هذا التضارب المصلحي في تحديد المواعيد الزمنية سيؤدي في النهاية إلى «وقف تنفيذ» التفاهمات التي سيعلن عن خطوطها العريضة قريبا. الإعلان عن تفاهمات مبدئية يشكل مكاسب نظرية يريدها بوش لتحسين صورة عهده البائس. والتجميد (وقف التنفيذ) يعطي مكاسب عملية لدمشق وطهران وتل أبيب يمكن أن تشكل مادة حيوية للتفاوض بشأنها في ولايات وعهود وإدارات جديدة. أما عباس فسيكون الخاسر الأول في المحطة المقبلة إذا استمر القطار يسير على السكة الدولية - الإقليمية بهذا الاتجاه. أما إذا حصل الانعطاف بسبب ضغط الوقت على بوش فإن القطار سيخرج عن السكة. وهذا الاحتمال الضعيف إذا وقع فإنه بالتأكيد سيلغي الكثير من القراءات والمراهنات وسيضع المنطقة في مواجهة استحقاقات خطيرة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2155 - الأربعاء 30 يوليو 2008م الموافق 26 رجب 1429هـ