العدد 2155 - الأربعاء 30 يوليو 2008م الموافق 26 رجب 1429هـ

دروس نيلسون مانديلا في القيادة (2 - 2)

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

بالإضافة إلى ما استعرضناه في مقالنا السابق من أبرز ما تضمنه تقرير «مانديلا: دروسه الثمانية في القيادة» المنشور في مجلة «التايمز» الأميركية حيث تناولنا الدروس الأربعة الأولى في القيادة، فإننا سنسلط في هذا المقال الضوء على الأربعة دروس الأخرى من دروس أو ربما وصايا الزعيم المناضل نيلسون مانديلا في القيادة «Leadership».

ففي الدرس الخامس وشعاره «ضع أصدقاءك بقربك وضع منافسيك في موقع أقرب» يتناول الكاتب نماذج وأمثلة متعددة في فن إدارة مانديلا لعلاقاته ليس فقط مع أصدقائه ورفاقه الأقرب إلى ثقة قلبه ومكنون وعيه، وإنما حتى مع منافسيه وخصومه في الحياة السياسية العامة ربما ضمن ذات المؤسسة وخارجها، فهو لا يشن عليهم حروبا شعواء ويزيد من عزلتهم ويشهر بهم ويخونهم، وإنما يحتويهم بمنتهى اللطف والرقة ويناقشهم ويستشيرهم، ومن بينهم زعيم الجناح العسكري بالمؤتمر الوطني الإفريقي كريس هاني الذي لطالما اعتقد أنه يتآمر على مانديلا، كما أشار المؤلف، هو وغيره من قيادات المال والأعمال وشخصيات سياسية عكف مانديلا على الاتصال بها شخصيا للتهنئة أثناء أعياد ميلادها إلى جانب اتصالاته واقترابه من سجانيه الذين أصبحوا أصدقاءه من بعد!

إن مانديلا بذلك يطبق منهاجا إذا ما أردت التأثير في الخصوم والمنافسين واحتواءهم فعليك أن تعانقهم وتتعاطف معهم، إذ إن خطورة المنافسين تزداد في عزلتهم وتخفت في دخولهم دائرة الاحتواء والتأثير، ويبين الكاتب أنه وإن كان مانديلا يهتم بالولاء ويعزه فإنه يحول دون أن يصبح ممسوسا ومشغوفا به، فهو في النهاية يؤمن بمقولته «الناس تعمل وفقا لمصالحها الخاصة» وهذا ضمن طبيعة الإنسان وليس أمرا خاطئا!

وبالنسبة إلى الدرس السادس وهو «المظهر يهم وتذكر أن تبتسم» فيستعرض المؤلف ما للأناقة الشخصية والبنيان الجسدي المندرجة ضمن الكاريزما الشخصية والذاتية من أعظم الأثر على نفوس مريدي الزعيم والمناضل والسياسي نيلسون مانديلا وهي أمور لا غنى عنها وخصوصا حينما يعتمد عليها في سد عوامل نقص جاذبي في القدرات الخطابية والإلقائية غير المميزة لمانديلا الذي أدرك ذلك مبكرا، وراعاه جيدا منذ زمن النضال حينما كان زعيما للجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي، إذ لطالما كان يصر على تصويره بلباس ملائم ولحية، وفي الأيام الأخيرة يرتدي مانديلا مجموعة من ملابس «التي شيرت» الزاهية والنضاحة بالحيوية التي تعطيه صورة الجد المبتهج لإفريقيا الحديثة وهو يشارك في مختلف الفعاليات الاجتماعية والثقافية الشعبية باستمرار كما يشرح الكاتب ذلك الاختلاف.

كما أن لابتسامة نيلسون مانديلا المميزة التي يصورها المؤلف كما لو أنها شمس ساطعة في سماء غائمة أعظم الأثر في توصيل الرسائل إلى عامة الشعب الجنوب إفريقي بيضا وسودا، ففي حين أنها تعني للبيض انحسار وشح مرارة مانديلا وتعاطفه معهم، فإنها تعني للسود أنه المحارب المنتصر والسعيد بانتصاره كما يورد المؤلف أمثلة على ذلك. وفيما يتعلق بالدرس السابع وهو «لا يوجد هنالك شيء أبيض أو أسود» يتطرق الكاتب إلى سؤاله لمانديلا «حينما قررت ترك خيار النضال المسلح فهل ذلك يرجع لكونك قد أدركت أنه ليس لديك القوة للإطاحة بالحكومة أم أنك أدركت أنه بإمكانك كسب ثقة الرأي العالمي باختيار اللاعنف؟» فأجاب مانديلا على سؤال الكاتب «ولماذا لا يكون كلا الخيارين متاحين؟».

ويشير المؤلف إلى أن الرسالة التي أراد أن يوصلها مانديلا هي أن «الحياة لم تكن فقط مع أو ضد» فعملية اتخاذ القرار هي عملية معقدة ودائما ما تكون هنالك عوامل متنافسة، ويتناول البعد البراغماتي من سيرة مانديلا الذي كان يقيم حساباته على أساس «ما هي النهاية التي أود أن أنشدها؟ ما هي أكثر الطرق عملية لبلوغها؟»، وهو لا ينكر عون ومساعدة الزعيم الليبي معمر القذافي والزعيم الكوبي فيدل كاسترو له في مساعدة المؤتمر الوطني الإفريقي حينما اعتبرته الولايات المتحدة الأميركية إرهابيا، فالأميركيون بحسب مانديلا لا يرون الأشياء إلا باللونين الأبيض والأسود فقط، وهو أمر ضد طبيعة الأشياء حيث المشكلة لها أسباب كثيرة ومنها أزمة نظام الأبارتهايد العنصري بجذورها التاريخية والاجتماعية والسيكولوجية.

وربما آخر دروس مانديلا وأكثرها أهمية هو «الاستقالة هي قيادة أيضا» ويستهل المؤلف شرح هذا الدرس وهو يبرز الظهور التلفزيوني لمانديلا حينما قدم اقتراحا بإنزال الحد العمري الأدنى للتصويت الانتخابي إلى 14 عاما وعلى رغم كونه الداعم الوحيد لهذا الاقتراح وبالتالي سقوط هذا الاقتراح فإن مانديلا تقبل هذا الرفض بمنتهى الرقي والتواضع ولم يعبس ويحتج على ذلك وهو درس في القيادة يجب الاستفادة منه بنظر الأمين العام للمؤتمر الوطني الإفريقي رامفوسا.

ويبرهن الكاتب على أن القدرة على تجاوز الفكرة أو المهمة أو العلاقة الخاسرة عادة ما يكون أصعب القرارات التي يتخذها الزعيم، فبحسب المؤلف أن أعظم إرث تركه وخلده مانديلا كان طريقة مغادرته للسلطة، وإن كانت الرئاسة مدى الحياة هي أبسط رد جميل لمعاناته وتضحياته التي لا تقدر بثمن، وهو كما ذكر الأمين العام للمؤتمر الوطني الإفريقي رامفوسا رأى أن مهمته هي «وضع الدرس وتحديد الوجهة» وليس «توجيه السفينة»، وبالتالي أدرك منذ البداية أن «القادة يتمكنون من القيادة بقدر ما يختارون وليس بقدر ما يفعلون»، وبالتالي استفاد مانديلا ونضج كثيرا من تجربته المريرة في السجن كما أشار إلى ذلك، وبالتالي لا تتناقض رؤية مانديلا الإنسان مع إدانته لديكتاتور زمبابوي روبرت موغابي الذي استغل تاريخه النضالي في تدشين أبشع الديكتاتوريات وأكثرها تخلفا!

إن الغاية من نشر وتداول مثل تلك الدروس والوصايا القيادية الآتية كخلاصة صافية من قدر زعيم ومناضل عالمي من الطراز الرفيع كنيلسون مانديلا لربما ليس فقط محاولة عابثة لمس شغاف أنظمة الغنيمة وعروش البؤس، بل من الممكن أن تمتد تلك الغاية النقدية إلى قيادات وصفوف المعارضة التي امتهنت للأسف ذات دروس الديمقراطية الإجرائية المتلقاة سلطويا واكتسبت أعراض متلازمتها حتى تاهت وابتذلت غير أن السلطة تفوقت عليها بفن التحرك المتوازن في ذلك، فلا ريب أنه من الضروري أن تنتصر الأمة والشعب والتنظيم في نظر مناضل ورمز وقائد سياسي وأب حنون لجميع الأفارقة لا أن تنتصر الشلة و لـ «حتة» مقعد برلماني خوان كما لدينا!

كما أن إدراك الفلسفة الإنسانية للقيادة والزعامة النضالية وميكانزماتها المرنة ودروسها التاريخية قد يدفع إلى تجنب وتحاشي تقديس بعض الإخوة من أصحاب المواقف الخشبية والتصريحات الحديد الأكثر امتصاصا لنار السلطة وعبثها وإعادة خلقها وبعثها الرمادي الكئيب!

وإعادة الاكتناه لمفهومية القيادة من منظور مانديلا بالتالي ترشدنا كعامل محفز للتعامل مع المتعصبين والمتطرفين ضمن مقامهم المناسب كأمراء وأولياء وحكماء في أزمنة وأمكنة الانحطاط والهوان والتردي، وبالتالي هو يحرج الممارسات الاحتكارية والاختطافية المطوقة بديمقراطية حزبية إجرائية مبتذلة كالتي تتبعها زعامات معارضة يسارية، وذلك قبل المعارضة الدينو سياسية، فتخلط الحابل بالنابل، وتمتهن «سبع صنايع والبخت ضايع» من دون أن تساءل عن مسئولياتها التنظيمية والاجتماعية ليس لسبب سوى كونها تميزت بلائحة واسعة من أوسمة وشارات التزكية الانتخابية دون أن تعلم أن القيادة أمانة وليست أمنية، وربما أمام ذلك الطوفان من الاستلاب والتفريغ والإغراق بالتعويذة الديمقراطية ليس غريبا حينها أن يظهر في أحد الأزمنة البائسة ومن داخل الشلة اليسارية والتقدمية أحد «الهتيفة» من يدعو إلى انتخاب الزعيم وابن الزعيم علنا!

أليس حريا حينها بأقطاب المعارضة في مشهديها المحلي والإقليمي أن تتدارس وتمعن التدبر في وصايا ودروس نيلسون مانديلا أو ربما حتى مقولة الوالد المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي شفاه الله حينما انتقد الشح الديمقراطي للأحزاب السياسية العربية ودعاها إلى «دمقرطة» نفسها بداية؟!

متى العودة إلى الروح؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2155 - الأربعاء 30 يوليو 2008م الموافق 26 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً