العدد 2154 - الثلثاء 29 يوليو 2008م الموافق 25 رجب 1429هـ

الأزمة السودانية... نموذج لفشل التعامل!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لم تعد الأزمة، أزمة تسليم أو عدم تسليم الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى المحكمة الجنائي الدولية. لكن الأزمة أعمق من ذلك وأخطر...

هي في يقيني أزمة وطن وليست أزمة شخص حتى لو كان هو الرئيس الحاكم، فالوطن السوداني والدولة السودانية والشعب السوداني قد دخل في نفق مظلم للأسف، ليس فقط بطلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإيقاف واعتقال الرئيس السوداني، ولكن بسبب تراكمات لمعالجات خاطئة لمجمل مشكلات السودان على مدى العقود الأخيرة، وبالتالي الفشل في حلها وفق أسس عادلة وراسخة.

وفي يقيني أيضا أن سياسة التهميش والتسويف في مواجهة الأزمات الأساسية، التي اتبعتها حكومات السودان المتتالية، هي التي راكمت العقد حتى احتكمت، مرورا بأنهار الدماء وضجيج الحروب وخسائرها الفادحة، حتى أصبح السودان على شفا الانهيار والتقسيم...

فإذا ما تمزق السودان، وهو واحد من أغنى وأكبر الدول الإفريقية، فإن انشطارات تمزقه سوف تصيب دولا إفريقية عديدة، وخصوصا دول حوض النيل العشر، وبالأخص مصر الجار الشمالي والسند الاستراتيجي التاريخي.

بعد ثلاثين عاما من الحرب الأهلية الطاحنة بين الشمال والجنوب، وبعد نحو خمس سنوات من انفجار مستودع العنف والتمرد في دارفور غربي السودان، استيقظ الجميع على جرس الإنذار الذي أطلقه مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، المطالب باعتقال ومحاكمة الرئيس السوداني بتهم فظيعة هي ارتكاب جرائم حرب وإبادة وتطهير عرقي ضد أهل دارفور.

ولو لم يصدر هذا الطلب ولو لم يدق جرس الإنذار هذا، لمضت الأمور في معالجة الأزمة السودانية على حالها من التراخي والتأجيل والترحيل، جنبا إلى جنب مع مناوشات ومعارك هنا وهناك، مرة في الجنوب وأخرى في الغرب وثالثة في الشرق.

وبدلا من معالجة كل ذلك بالحكمة والتفاهم، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة بأمانة وصدق، بهدف إزالة رواسب الإهمال والتهميش والظلم، فوجئنا بالتعبئة العامة للشارع وتجييش المظاهرات التي ترفع العصي مع الشعارات الخادعة، متجاهلة أصول الأشياء وأسباب الأزمات ودوافع التحركات المتمردة والمساندة لها من الخارج على السواء، فإذا بالجميع أمام الكارثة، التي يبدو أن السودان لن ينجو منها هذه المرة، اللهم إلا إذا اعتبر البعض أن حماية الرئيس السوداني من المحاكمة الدولية هي قمة الانتصار، الحامية لحاضر السودان ومستقبله.

ولنكن واقعيين... بعد ثلاثين عاما من الحرب الأهلية في جنوب السودان، بين الحكومة المركزية والحركة الشعبية الجنوبية، تلك الحرب التي وصفت بالأطول في إفريقيا، جرى توقيع اتفاق نيفاشا للسلام العام 2005، وقدم الطرفان تنازلات كبيرة، ليس عن طيب خاطر، ولكن بضغط دولي هائل قادته الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الإقليميون في المنطقة، في غيبة عملية وحقيقية للقوى العربية المؤثرة صاحبة المصلحة، وخصوصا مصر والجامعة العربية، رغم حضور ممثليهما لحفل التوقيع النهائي للاتفاق، من باب المجاملة والتقاط الصور!

وبقدر سعادة الطرفين المتحاربين المتصالحين، باتفاقية نيفاشا، بقدر تعثر هذه الاتفاقية عند كثير من المفاصل والتفاصيل، التي شهدنا الخلافات حولها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وصولا للتهديد بالحرب من جديد بسبب الخلاف الحاد حول منطقة «أبيي» الغنية بالنفط والمتنازع عليها.

وبقدر ما أن الاتفاقية هذه منحت الطرفين ست سنوات يتقرر بعدها مصير الجنوب، انفصالا واستقلالا عن الشمال، أو اختيار الوحدة حفاظا على كيان السودان الذي نعرفه، بقدر ما نعتقد وفق مجريات الأمور أن الجنوب يجري بسرعة فائقة نحو الاستقلال في العام 2011، بل إننا نعتقد أن أسس الدولة المستقلة قد جرى تثبيتها منذ اليوم الأول بمساعدة قوى إقليمية ودولية، لها استراتيجيتها في تقسيم السودان، هذا الكيان الضخم المتمدد من حدود مصر وبحيرة ناصر شمالا، إلى عمق إفريقيا والبحيرات العظمى جنوبا...

وهذا ما شجع متمردي دارفوربل ومتمردي شرق السودان، على التمرد والانتفاض وإشعال الحرب الأهلية، بالحجج والأسباب نفسها، إلا وهي الشكوى المرة من التهميش والظلم والاضطهاد، واستئثار الحكومة المركزية بالسلطة والثروة... صحيح وقّعت الحكومة المركزية اتفاقية أبوجا العام 2006 مع بعض فصائل التمرد في دارفور، وبالتحديد مع أهم فصيل الذي يقوده «منى اركو ميناوي»، الذي تم تعيينه مساعدا لرئيس الجمهورية، لكن الصحيح أن حكومة الخرطوم ارتكنت إلى المظهر دون الغوص في الجوهر، وعادت إلى بعض ما مارسته مع الجنوب، فإذا بحليفها ميناوي يهجر قصر الرئاسة بالخرطوم ويعود غاضبا إلى مقره في دارفور، احتجاجا على عدم تنفيذ اتفاقية أبوجا بشكل دقيق.

والمعنى أن الحلول السهلة والحملات الدعائية والشعارات البراقة لا تحل وحدها المشكلات ولا تستطيع مواجهة الأزمات الحادة، بعيدا عن المعالجات الجذرية لأسباب التمرد ووسائل مواجهته بالمنطق والعقل والمصالح المشتركة.

وللأسف فقد كان من أسباب الفشل في كل ذلك، مشاركة الأطراف المتصارعة في خلط الأمور، وخصوصا تلوين الصراع بألوان دينية وعرقية، فعلى سبيل المثال، رفعت حكومة الإنقاذ (أيام كان يقودها الثنائي المتحالف البشير - الترابي، بعد نجاحهما في الاستيلاء على السلطة العام 1989) شعارات دينية لخوض الحرب في جنوب البلاد، وأهمها «الجهاد في سبيل نصرة الإسلام»، ما دفع الطرف الآخر للاستنفار «الديني» ودفع الدول الغربية والمؤسسات التبشيرية ومجلس الكنائس العالمي، إلى تكثيف كل الجهود المادية والسياسية وراء مقاتلي الجنوب... وصولا لما حققوه من مكاسب هائلة في اتفاق نيفاشا.

ومرة أخرى تقع المأساة ويحدث الفشل مع متمردي دارفور، ولكن هذه المرة تحت شعارات عرقية، فتم تصوير الصراع على أنه بين القبائل العربية وبين القبائل الإفريقية الرئيسية الثلاث: الفور والزغاوة والمساليت، ولنفس الأسباب وخصوصا الاضطهاد والتطهير العرقي، تدفقت القوى الأجنبية «الغربية» على دارفور تساعد وتؤلب وتسلح وتمول... وصولا لتوقع أن تجري دارفور على نفس منوال الجنوب.

والنتيجة أن السودان أصبح واقعا تحت مقصلة التفتيت والتقسيم العرقي والديني، دولة في الجنوب للأفارقة المسيحيين وغير المسلمين، ودولة في دارفور للإفريقيين المسلمين، ودولة في الوسط للعرب المسلمين، وربما دولة في الشرق لقبائل البجا والرشايدة وهلم جرا... وتلك هي قمة الفشل.

والفشل الذي نعنيه، ليس فقط هو فشل الحكومة السودانية المركزية في الحفاظ على وحدة الدولة وتماسك الوطن، حربا أو سلما، ولكنه فشل ذريع تتوزع مغارمه الثقيلة على امتداد الوطن العربي، وبالتحديد على مصر البوابة الاستراتيجية للسودان، والجارة التي ترتبط به بشريان الحياة عبر تدفق مياه النيل من منابعه الإفريقية.

لقد فشلت كل نظربات الأمن القومي العربي، في مساعدة السودان على صيانة وحدته واستقلاله، وتخلت عنه وتركته وحيدا، بين براثن الانشقاق والتمرد ونفوذ القوى الأجنبية من ناحية، وبين براثن حكومات مركزية غير رشيدة، فضلت السلاح حكما في تعاملها مع مواطنيها الشاكين من الظلم من ناحية أخرى.

ورغم أن السودان يجري نحو التقسيم، فإن الأمن القومي العربي مازال في غيبوبته التاريخية، مكررا نفس ما جرى ويجري في الصومال الدولة العربية الإفريقية التي انهارت على مدى أكثر من عقدين، وصولا لحرب أهلية يصعب معرفة أطرافها بالضبط، ومكررا ذات ما يحدث في مجمل القرن الأفريقي ذي الموقع الاستراتيجي المطل على اليمن والسعودية وبحر العرب ومضيق باب المندب وخطوط نقل بترول الخليج من منابعه إلى أسواق استهلاكه... من يحكمها اليوم.

أما مصر فتتحمل من الفشل في معالجة أزمات السودان، النصيب الأكبر ليس فقط بحكم الجوار الجغرافي، ولكن أيضا بحكم النسب والتداخل بين الملايين شمالا وجنوبا، وبحكم أن السودان هو البوابة الجنوبية لمصر نحو قلب إفريقيا، فضلا عن الأهمية الاستراتيجية لحماية تدفق ماء النيل شريان الحياة لثمانين مليون مصري.

وأظن أن التراجع المصري في الانغماس في الشأن السوداني عبر العقدين الأخيرين على الأقل، والاكتفاء بحسن الجوار العادي وبدبلوماسية الأمن المائي، دون غيره، قد خلق أوضاعا جديدة وأسّس لعلاقات شكلية بين بلدين توأم، هما أقرب البلاد العربية إلى بعضهما وأشدهما حاجة لتعاون استراتيجي أعمق من مجرد الشكليات الدبلوماسية الواقعة بين مصر وبوركينافاسو أو بين السودان وبولندا.

والخلاصة... ترك السودان يجري نحو التقسيم جريمة، تعبّر عن فشل، وترك الجريمة تتم بسلاسة ودون أدنى حد من المقاومة جريمة أفدح، تعبّر عن الفشل الأكبر، تجني ثماره المعطوبة كل الأطراف دون استثناء!

خير الكلام:

يقول حافظ إبراهيم:

ما استبد برأي حكومته إن الحكومة تغري مستبديها

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 2154 - الثلثاء 29 يوليو 2008م الموافق 25 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً