في ظل تكاثر الكلام عن مفاوضات أميركية - إيرانية عبر القناة الأوروبية، ومفاوضات سورية - إسرائيلية من خلال القناة التركية... واحتمال توصل اللقاءات إلى تفاهمات ثنائية بين واشنطن وطهران ودمشق وتل أبيب عادت التحليلات تتذكر مقولة «الوكالة» الإقليمية أو «الدور» الإقليمي في «الشرق الأوسط الجديد».
فكرة «الوكالة» التي أخذت بالانتعاش في الذاكرة تأسست بناء على معلومات وردت في خريطة «الحوافز» التي تقدمت بها المجموعة الأوروبية بالتفاهم مع أميركا وروسيا والصين لإيران. فالإغراءات تلحظ في بنودها الموقع الإيراني الخاص وتضمن لطهران ذاك الدور المميز في سياق معالجة مختلف الملفات الإقليمية.
المسألة لم تعد سرا بل تحولت إلى مدار قراءات تريد معالجة هذا الجانب وتوضيح زواياه وإطاراته ومواقعه وحدوده. حتى القيادة السياسية في إيران لم تتردد في طرح مسألة «الدور» في سياق جولات التفاوض مع الجانب الأوروبي في جنيف والجانب الأميركي في بغداد. فهناك أكثر من مسئول إيراني أشار إلى إمكان مساعدة طهران الولايات المتحدة على معالجة ملفات تبدو صعبة الاحتواء.
موضوع التفاوض على «الدور» لم يعد مجرد مقولة مطروحة تتم مناقشتها وراء الكواليس، وإنما تحول المفهوم إلى ورقة للسجال ويمكن المساومة عليها على طاولة الحوار المباشر وغير المباشر. حتى إن القوى المتفاوضة انتقلت من محطة الكلام عن مفهوم «الدور» إلى تحديد المواضع والأمكنة التي يمكن أن يساعد المحور الإيراني - السوري على مداولتها والتفاهم بشأنها. فهناك حديث عن أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين وأحيانا يتسع الكلام ليشمل الخليج والنفط وأمن القوات الأميركية وضمان تموضعها في أمكنة وحماية انسحابها في حال قررت التراجع.
حتى الآن لم تتسرب معلومات واضحة عن «الدور» الإيراني - السوري في «الشرق الأوسط الجديد» باعتبار أن مسألة «الوكالة» الإقليمية تحتاج إلى دراسة شاملة للتعرف إلى مدة تلك الوكالة وشروطها السياسية وحدودها الجغرافية وطبيعتها الايديولوجية ومدى ابتعادها عن المشروع الأميركي في المنطقة ونسبة اتصالها بذاك المشروع التقويضي الذي بدأ في أفغانستان (العام 2001) وفلسطين (2002) والعراق (2003) ولبنان (2006).
المعلومات غير واضحة بشأن «الوكالة» وتحتاج إلى تفصيلات للتعرف إلى ماهيتها ومدى جديتها وجدواها. وبما أن الفكرة تبحث في الكواليس ويتم تسريبها أحيانا لاختبار ردود الفعل عليها فهي لاتزال عرضة للتداول أو التجاوز أو الإقرار. وهذا يعني أن الأمر يتطلب مهلة زمنية حتى تخرج الفكرة متكاملة في معناها ومبناها. والمهلة قد تمتد إلى فترة قصيرة؛ لأن الإدارة الأميركية تحتاج الآن إلى الإعلان عن تحقيق اختراقات في «الشرق الأوسط» حتى تستطيع توظيفها في معركة الرئاسة الأميركية التي ستجري في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
شروط الوكالة ومقابلها
الدور (الوكالة) مسألة تبدو مطروحة ولا خلاف عليها بين الثنائيات التي تتفاوض في جنيف أو تركيا. إلا أن الموضوع ليس بهذه البساطة حتى تتأسس عليه خلاصات وتعليقات نهائية. فالموضوع بحاجة إلى إعادة قراءة تشمل تفصيلات حتى يمكن التعرف إلى معنى «الوكالة». فهل الوكالة ستكون مطلقة أو مقيدة بشروط؟ وهل ستكون محكومة بسقف استراتيجية التقويض الأميركية أم مخالفة لمشروع إدارة واشنطن؟ هل الوكالة ستكون محددة زمنيا وقابلة للتجديد أم مفتوحة على مختلف الأزمنة والأطوار؟ وهل ستقتصر على جغرافيا سياسية تبدأ في أفغانستان والعراق وتنتهي في لبنان وفلسطين أم أنها ستكون شاملة جغرافيا تضم الخليج والأردن والنفط وأمن «إسرائيل»؟ وهل ستتحرك الوكالة الإقليمية تحت سقف المشروع الأميركي وغاياته وأهدافه أم أنها ستعطى ذاك الهامش السياسي الذي يعزز الدور الإقليمي في إطار التوافق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة؟ كذلك هل تكون الوكالة مفتوحة أو قابلة للتجميد أو خاضعة في كل فترة زمنية لإعادة النظر؟
الكلام عن الدور (الوكالة الإقليمية) ليس فكرة بسيطة ومسألة عارضة ومجرد ورقة (أو أوراق) للتفاوض على طاولة تقاسم النفوذ. الموضوع مهم وخطير ويحتاج إلى قراءة دقيقة تتناول كل التفصيلات وتشمل تلك التداعيات المحتمل ظهورها في ضوء خلفيات الصفقات والتفاهمات. فالوكالة حين تتقبل دولة كبرى ومهيمنة أن تعطيها لموقع إقليمي فإنها تتطلب دراسة معمقة حتى تكون المقايضة معقولة ومضمونة ولا تنعكس سلبا على المصالح الدولية ومراكز القوى الإقليمية وتوازن القوة التي استقرت عليها المنطقة في العقدين الأخيرين.
حين تقرر دولة كبرى التنازل عن دورها وتفويض قوة إقليمية بأخذ موقعها فإن ذلك يقتضي منها إعادة النظر في استراتيجيتها أو المحافظة عليها من خلال الاعتماد على وكلاء. وإعطاء وكالة إقليمية لدولة محورية معينة في منطقة استراتيجية وغنية بالثروات والنفط والممرات والمضائق يعني أن الدولة الكبرى وافقت على التنازل أو التراجع مقابل «شيء ما» أو «وعد» أو «ضمانات» أو «شروط» وغيرها من عناصر لوجستية تكون مقبولة وتعوّض تلك الخسائر المتوقعة أو التي ستنجم عن التموضع أو الانسحاب أو التراجع (الانكفاء) إلى مناطق مضمونة سياسيا وأمنيا.
الحديث عن «الوكالة» ليس مسألة عرضية لأنه أساسا يتطلب إجابة عن سؤال: ما البديل؟ فالبديل (المكسب السياسي) هو المقابل (الثمن السياسي). وحين تتواضع دولة كبرى وتتنازل وتعترف بالهزيمة أو فشلها فإنها تطالب الطرف المفاوض بالتعويض أو تقديم «المقابل» حتى يعطى «الوكالة» المطلقة (العامة) أو المقيدة (الخاصة).
ما «المقابل» الذي يمكن أن تقدمه إيران مثلا إلى الولايات المتحدة تعويضا عن «الوكالة» الإقليمية؟ وما «المقابل» الذي يمكن أن تتراجع سورية عنه وتعطيه للولايات المتحدة حتى تستعيد تلك الوكالة التي خسرتها بعد انسحابها من لبنان في ربيع 2005؟
أسئلة كثيرة يمكن إضافتها للتعرف إلى معنى الكلام عن الوكالة (الدور) الذي ارتفع منسوبه بعد تلك اللقاءات «الفنية» و«التقنية» و «الإجراءات العملية» التي ازدحمت بها كواليس السياسة وغرف الاجتماعات السرية والعلنية في عواصم أوروبا والمشرق العربي. فالموضوع بحاجة إلى ضمانات وشروط وميادين وحقول اختبار وفحص نوايا وغيرها من حدود تقيّد «الوكالة» وتربطها بحلقات ترسم الهوامش وتضبط إيقاع العلاقات حتى لا ينفرط العقد وينهار البناء وتتصادم القوى تحت مظلة دولية غير قادرة على التكيف مع المتغيرات وبالتالي غير مستعدة لإعادة التدخل في منطقة متمردة عليها.
الكلام كثير عن احتمال عودة أميركا إلى عقلية الوكالات الإقليمية. إلا أن إمكانات التوصل إلى هذا الترجيح مسألة تحتاج إلى قراءة دقيقة. فالمسألة ليست سهلة؛ لأن الوكالة السياسية تشبه كثيرا الوكالة القانونية من حيث التزامها قواعد اللعبة الدستورية وخضوعها إلى دفتر شروط يعطي المحكمة حق التدخل في حال خروج الوكيل (الطرف الثالث) على بنود الاتفاق.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2154 - الثلثاء 29 يوليو 2008م الموافق 25 رجب 1429هـ