العدد 2209 - الإثنين 22 سبتمبر 2008م الموافق 21 رمضان 1429هـ

انتصارات من دون أسباب

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هناك الكثير من الأقلام الصحافية العربية أخذت تروج منذ فترة ليست بعيدة دعوات تطالب الجماهير بالرقص في الشوارع ابتهاجا بالانتصارات على الولايات المتحدة وحليفها الإسرائيلي في منطقة «الشرق الأوسط». فهذه الأقلام الطنانة الرنانة ترى أن الأمة نجحت في تسجيل انتصار تاريخي على مختلف الجبهات وبدأت بالانتقال من طور الدفاع إلى طور الهجوم وهي على قاب قوسين من حسم المعركة النهائية بعد حرب مديدة وطويلة.

الكلام عن الانتصار العربي يشبه كثيرا ذاك الكلام عن الهزيمة العربية. فالأخير ليس دقيقا لكون المعركة مستمرة. والأول ليس صحيحا باعتبار أن المعركة لاتزال في بدايتها.

إذا كان الأمر كذلك فما هو الهدف الحقيقي من ترويج أفكار الانتصارات المتتالية في وقت تبدو الوقائع الميدانية تخالف هذه الدعوات للاحتفال؟ هناك فرضيات كثيرة يمكن رؤيتها من خلف الستار. فمثلا يمكن أن تكون الدعوة للابتهاج والرقص تغطية إعلامية لمسألة أخرى يجري إعدادها سرا. ويمكن أن تكون قنابلَ دخانية لحرف الأنظار عن كوارث حقيقية حصلت ومطلوب من تلك القوى الإعلامية تعطيل العقل من خلال القرع المستمر على الطبول. ويمكن أن تكون سياسية متعمدة لإلهاء الناس بالقشور في وقت تكون اللقاءات «الفنية» و «التقنية» تتواصل تحت وقع أصوات الدف والدبكة.

هذا النوع من التفكير المتسارع في استنتاجاته يثير الشك ويطرح الشبهات وخصوصا حين يبالغ في خلط الأمور ورمي الجمرات الحارقة والقفز فوق الجبال والانسياق وراء مفردات تطلق في الهواء كالأسهم النارية ومفرقعات الأعياد. هذه الأقلام الفرحة بالربيع العربي والخريف الأميركي تثير فعلا علامات تعجب واستفهام وخصوصا حين تطالب الناس بعقد حلقات للرقص والدبكة ابتهاجا بالنصر العظيم في حين يعاني الناس من مشكلات تمنعهم من دفع تكاليف دعوة عشاء متواضع.

لماذا فعلا مطلوب من هذه الأقلام أن تكتب عن انتصارات مزعومة تضخم فيها البطولات وتنفخ في القرب وتدعو الناس للفرح في أجواء من الحزن الطويل في امتداداته الجغرافية والتاريخية؟

لا يعرف إذا كان هذا النوع من الكلام مطلوب تسويقه للإلهاء والتضليل وحرف الأنظار. ولكن ما يمكن ترجيحه هو أن تكون تلك الكتابات الناقصة تصدر فعلا عن وعي ناقص لا يتمتع بتلك القدرات المطلوبة لقراءة الواقعات من كل جوانبها وجهاتها.

الوعي الناقص مشكلة لأن الخوف هو أن يتحول الترويج لمثل هذه الأفكار سياسة تترتب عليها مجموعة انقسامات تؤسس لنوع من المواجهات الأهلية بين «فريق منتصر» وآخر «مهزوم». وتصبح احتفالات النصر مناسبة لاستكمال لعبة الاستقطابات التي يعاد استخدامها لشحن النفوس المتوترة أصلا وحقنها بالأحقاد الموروثة والمستحدثة.

الخوف من تطور الوعي الناقص لا يقتصر على تزييف الواقع وتزيينه بالنياشين والأنواط وإنما أيضا يمكن أن يتحول مع الأيام إلى أفراح تشبه في مظاهرها «حفلات الزجل» التي تعقدها تلك الفرق من الشعراء في الأمسيات اللبنانية.

حفلات الزجل تبدأ هادئة وعاقلة حين يأخذ كل شاعر في الفرقة بقراءة قصيدة مكتوبة ومهذبة ومشغولة في مفرداتها وتراكيبها. وبعدها تبدأ مباراة الشعر ويأخذ كل شاعر بارتجال قصيدة ويرد عليها الآخر مباشرة بقصيدة شفهية. ويرد الأول عليه ثم يرد الآخر... ويبدأ الزجل بالسقوط ليتحول الشعر إلى سجال جارح ونفاق وادعاء وشتم وقدح وذم يطاول الأعراض والشرف والأخلاق ويهين الآخر ويبهدله ويمزقه أربا ولا يبقى له حسنة واحدة. وبين الرد والرد تتحول حفلة الزجل (الدجل) في نهاية الأمسية إلى معركة بالكراسي والقناني والصحون والطناجر والسكاكين فيسقط الجرحى وتصبح السهرة مشكلة تتطلب تدخل الأمن العام لوقف الناس عن مواصلة الفرح والابتهاج.

مقالات الزجل

حفلات الزجل (الدجل) اللبنانية تشبه كثيرا في وقائعها كتابات ومقالات هذه الحفنة من الأقلام التي تروج خطاب الدعوة للاحتفال في فترة لا يجد الناس ذاك المتسع من الوقت من كثرة التردد على المآتم. فهذه الحفنة لا تميز في مفرداتها بين المصطلحات وتخلط المواقف وتبعثرها من دون نسق أو محاولة ربط بين المقدمات والنتائج. وبسبب هذه المزاجية في الرؤية والقراءة تتحول الكتابات الترويجية إلى حالة تشبه حفلات الزجل (الدجل) اللبنانية حين تصل الأمسية إلى نهاياتها التراجيدية (ضرب الكراسي بالقناني).

هذه الحفنة من الأقلام لا تتردد في ترويج الدعوة إلى الاحتفال بالانتصارات الكبيرة والعظيمة التي تم تسجيلها بالتتابع في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وقريبا في باكستان انطلاقا من رؤية تعتمد على فرضيات بأن زمن الولايات المتحدة انتهى وهي على مقربة من النهاية وبأن المجد العربي سيعود من وراء التاريخ. فهذه الأقلام تعتبر أن انقسام السلطة الفلسطينية والاقتتال الداخلي ومصادرة الاحتلال القدس ونحو 40 في المئة من أراضي الضفة هي في محصلتها النهائية لحظة انتصارية تستدعي الدعوة إلى الاحتفال. والأقلام نفسها تعتبر أن تحطيم العراق وتمزيقه إلى ثلاث دويلات بعد حملات من التطهير الطائفي والمذهبي والعرقي أودت بحياة مليون عراقي وطردت سبعة ملايين من مناطق سكنهم فضلا عن حفلات النهب والسرقة والحرق والتدمير والتفكيك كلها بشائر خير تتطلب الرقص في الشوارع ابتهاجا بالإنجازات.

الأمر نفسه ينسحب على الصومال وأفغانستان وقريبا باكستان. فهذه الحفنة من الأقلام تقرأ التاريخ من وجهة نظر ضيقة لا ترى في الخريطة سوى ما تريد أن تشاهده وتتعامى عن تفصيلات تكمن في داخلها الشياطين. وآخر التفصيلات الشيطانية نمو تلك المشاعر المذهبية التي أخذت موجاتها ترتفع عاليا لتصل إلى القمة وتجرف معها عمائم عرف عنها أنها تتميز بالهدوء والموضوعية والوسطية والنزوع الدائم نحو التوحيد ورفض التطرف والمغالاة.

عن أي انتصارات تتحدث هذه الحفنة من الأقلام؟ ولماذا الإصرار على توجيه دعوات متتالية للاحتفال والرقص على أصوات الطبول في وقت تتمظهر الوقائع في مشاهد مأسوية وفتن متنقلة من مكان إلى آخر؟

حفنة الأقلام هذه لا تتردد في استخدام كل ما هو متوافر لترويج بضاعتها. فهي تحتفل بانتصار الصين الاقتصادي، وتقدم الهند التقني، وفوز روسيا في معركة جورجيا، وطرد السفير الأميركي من فنزويلا، وانهيار أسواق المال في نيويورك وغيرها من مشاهد لتؤكد نظرية الانتصار وبدء خروج الولايات المتحدة من الجغرافيا والتاريخ.

هذا النوع من التفكير الذي يتخبط عشوائيا في القراءة يفتقد فعلا إلى منهجية تهيكل المعلومات وتؤسس عليها الاستنتاجات في سياق متماسك في مقدماته ونتائجه. لذلك فهناك مخاوف محتملة من أن تكون تلك الكتابات مطلوبة حتى تشكل ذاك الغطاء لإضاعة البوصلة والهاء الناس بالقشور في فترة خطيرة قد تشهد تطورات انقلابية غير محسوبة.

هذه الكتابات الانتصارية تدعو الناس إلى الفرح وعقد حفلات الزجل (الدجل) على الطريقة اللبنانية. ولكن الابتهاج يتطلب دائما وجود سبب للاحتفال به وإلا تحولت المناسبة إلى نوع من الكذب والنفاق المعطوف على مصالح خاصة ورؤى ضيقة.

مرة توجه الزميل الصديق جوزيف سماحة (رحمه الله) إلى استوديو لأخذ صورة يحتاجها لتجديد جواز سفره. المصور حاول عبثا التقاط صورة لجوزيف يظهر فيها مبتسما. وأثار الوجه العابس حفيظة المصور وطلب من جوزيف أن يبتسم لأخذ اللقطة... ورد عليه ليس هناك في الاستوديو ما يوجب الضحك

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2209 - الإثنين 22 سبتمبر 2008م الموافق 21 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً