هل حقا قوى «14 آذار» اللبنانية في صدد مراجعة خطابها السياسي باتجاه إعادة هيكلة برنامجها ليتناسب مع المتغيرات الدولية والإقليمية في منطقة «الشرق الأوسط»؟
المراجعة حق مشروع لكل القوى السياسية حتى لو جاءت ناقصة ومتأخرة، ولكنها في النهاية تخضع لمجموعة شروط ذاتية وموضوعية حتى تتوصل إلى استنتاجات صحيحة تعيد ترتيب الأولويات والعلاقات. ومشكلة «14 آذار» أنها مجموعة قوى تلاقت موضعيا في فترة زمنية على نقاط محددة كانت نتاج إفرازات عكست في لحظات متتابعة تحولات أشارت إلى وجود قراءة أميركية جديدة لسياستها في المنطقة.
مشكلة «14 آذار» أنها لم تنجح في قراءة تلك السياسة فانخدعت بها، وتورطت في مراهنات غير صحيحة على متغيرات لا وجود لها أصلا على أرض الواقع. وهذا النوع من التفكير المتسرِّع في القراءة أدى في نهاية المطاف إلى سلسلة أخطاء كشفت عن ضعف في البنى الذهنية وعدم قدرة في التعامل العقلاني مع موازين قوى موضوعية.
مشكلة «14 آذار» تبدأ قبل ذاك اليوم التاريخي الذي اجتمعت فيه بعض الطوائف والمناطق احتجاجا على جريمة اغتيال رفيق الحريري. فالمناسبة التي جاءت في سياق تراكمات توجت مجموعة لقاءات تأسست في العام 2003 وتطورت في العام 2004 وتتوَّجت في ذاك اليوم الذي أطلق على القوى تسمية «14 آذار».
المشكلة إذا تبدأ قبل العام 2005 وهي تتصل أساسا بخطأ قراءة الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط». فالإدارة آنذاك أطلقت مجموعة شعارات براقة (كاذبة) للتغطية على سياسة التقويض التي اعتمدتها في العراق. فهي أعلنت خطط التحديث والتطوير والإصلاح والتنمية ومكافحة الاستبداد وحماية حقوق الإنسان وتمكين المرأة ونشر الديمقراطية وتحويل العراق إلى «نموذج» يحتذى لشعوب المنطقة. وشكَّل هذا القصف الايديولوجي قنابل دخانية لتغطية المشروع الحقيقي الذي يتلخص بحماية أمن النفط وضمان أمن «إسرائيل» من خلال دفع دول الجوار إلى نوع من القلق وعدم الإستقرار والفوضى (البنَّاءة/الهدَّامة) بقصد إعادة تشكيل الهيئة السياسية لخريطة «الشرق الأوسط» وبما يتناسب مع تصورات تيار «المحافظين الجدد».
مشكلة قوى «14 آذار» التي تشكَّلت رسميا بعد سنتين من تقويض العراق وتفكيك علاقاته الأهلية وشرذمته إلى دويلات طوائف ومناطق وأقوام أنها لم تقرأ جيدا الاستراتيجية الأميركية وصدَّقت أن واشنطن غيَّرتْ سياساتها وتحالفاتها وأقلعت عن دعم «أنظمة الاستبداد» التي تعاملت معها خلال 60 سنة.
أدت هذه القراءة الخاطئة إلى إنتاج سياسات اعتمدت على حسابات رياضية غير دقيقة في فهم المعادلات والمتغيرات. وأدى هذا الخطأ في الرؤية العامة إلى قراءة غير سليمة للقرار الدولي 1559. فقرات القرار خطيرة جدا وهي أورثت لبنان سلسلة كوارث ودفعته للوقوع في مطبات لا تقوى الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا) على تحملها. وعلى رغم أن القرار يدعو لبنان إلى التورط في أربع حروب إقليمية وأهلية على الأقل تعاملت القوى السياسية التي أطلق عليها لاحقا «14 آذار» مع الفقرات بمنطق غير واقعي ولم تجد في مسألة وضع لبنان تحت السقف الدولي بداية خلخلة لتوازناته الأهلية بقصد استخدامها في لعبة التنافس الفرنسي - الأميركي وتزاحم القوتين على إدارة ملفات الصراع.
واشنطن آنذاك كانت منزعجة من سياسة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي قاد جبهة دولية ضد الحرب على العراق وتقويض دولته. وعطلت السياسة الفرنسية الكثير من التحركات الأميركية وساهمت في تشكيل نقاط اعتراض إقليمية كان لابد من إزالتها حتى تستكمل واشنطن تمرير مشروعها الأصلي وهو زعزعة استقرار المنطقة ثم إعادة تشكيلها في ضوء «الفوضى المنظمة».
على أساس هذه الخلفية توجهت إدارة جورج بوش إلى التصالح مع شيراك انطلاقا من استخدام البوابة اللبنانية وتحويلها إلى ممر للعواصف الإقليمية التي تكونت في العراق. والقرار 1559 الذي نص على فقرات تفجيرية شكَّل ذاك الغطاء الدولي لتوليد انفجارات بدأت في العام 2004 إلى أن تتوَّجتْ بتلك الجريمة الرهيبة في 14 فبراير/ شباط 2005.
قراءات خاطئة
مشكلة «14 آذار» التي أخذت تسميتها من خلال ذاك التجمُّع البشري الهائل استنكارا للجريمة أنها أيضا لم تقرأ جيدا تلك التداعيات الجيوبوليتكية التي أسفر عنها الاغتيال. فالإنسحاب السوري العسكري من لبنان ليس خطوة تفصيلية جرى اعتمادها بناء على تلك الفقرة التي وردت في القرار 1559 وإنما شكَّلتْ تحولا في استراتيجية إقليمية أعطت إشارات دولية للقوى المعنيَّة بأمن «إسرائيل». الانسحاب كان خطوة نوعية زعزع المعادلة وغيَّر قواعد اللعبة وشروط الاشتباك وأظهر سورية بأنها دولة عاقلة ويمكن التعامل معها لأنها تتعاطى بموضوعية مع القوانين الدولية.
إدارة واشنطن تعاملت مع خطوة الانسحاب آنذاك بصفتها تشكل ذاك الثمن الذي كان لابد من دفعه عقابا للجريمة وهي تعاطت مع المسألة ضمن هذا الحد الجيوبوليتكي إذ رأت في الانسحاب ذاك السقف الأعلى الذي تم التوصل إليه. أما «العدالة» فهي فكرة جيدة ويمكن تأجيلها أو تركها لتأخذ مجراها الزمني في إطار تحقيقات جنائية ملونة بالسياسة.
المشكلة في قوى «14 آذار» أنها لم تقرأ جيدا تداعيات الجريمة في إطار التقاطعات الدولية والإقليمية حين تعاملت مع «العدالة» كقيمة رمزية مجردة عن السياسة والمصالح. وهذا الأمر ساهم في تطور الأخطاء وتعطيل إمكانات التوصل إلى قراءة صحيحة لاستراتيجية التقويض الأميركية. حتى إعلان الكونغرس تشكيل لجنة تقصٍ أو تحقيق لسياسة إدارة بوش في العراق لم تنتبه قوى «14 آذار» إلى أهميته كون القرار اعتمد هيئة ثنائية جمعت الحزبين الجمهوري والديمقراطي في إطار واحد. وحين وضعت لجنة بيكر - هاملتون خطة اتصالاتها في مطلع 2006 بناء على توصية الكونغرس كانت سورية وإيران على رأس اللائحة وفي طليعة القوى الإقليمية التي يراد التفاوض معها للتفاهم على موضوع العراق والأسلوب الأنجع الواجب اتباعه لاحتواء تداعياته.
حتى عدوان صيف 2006 على لبنان لم تقرأ قوى «14 آذار» جيدا خلفياته وانعكاساته وموقعه في استراتيجية التقويض الأميركية. فالعدوان قرار اتخذته إدارة بوش ونفذته «إسرائيل» على امتداد نحو 34 يوما. وبسبب استبعاد «14 آذار» الدور الأميركي في الترتيب والتغطية والتشجيع على العدوان لم تقرأ جيدا أن واشنطن تخلت عن بلاد الأرز وأنها أعطت الضوء الأخضر لتقويض البنى التحتية للدولة في وقت واحد مع تقويض البنى السكانية للمقاومة. والغريب في جماعة «14 آذار» أنها لم ترد حتى الآن على سؤال بسيط وهو: إذا كانت واشنطن مع الحرية والاستقلال والسيادة اللبنانية لماذا أعطت الصلاحية المطلقة لحكومة إيهود أولمرت بتحطيم لبنان وتدمير مؤسساته وإضعاف دولته (المشلولة أصلا) وتوريطها في مهمات إعمار إضافية في وقت تعاني خزينتها المالية من ديون هائلة ترهق الاقتصاد وخطط التنمية؟ حتى الآن تبدو قوى «14 آذار» غير مقتنعة بأن عدوان صيف 2006 هو أميركي - إسرائيلي وشكَّل رسالة واضحة باتجاه تقويض المشروع العربي في لبنان (المتمثل في إعادة بناء الدولة) وتعطيل إمكانات نجاحه في المستقبل.
بعد العدوان كان من المتوقع أن تتوقف قوى «14 آذار» قليلا وتعيد قراءة المتغيرات الإقليمية التي تتحرك تحت سقف الاستراتيجية الأميركية وتبدأ برؤية سياسة واشنطن من خلال حرص الأخيرة على حماية النفط وضمان أمن «إسرائيل» إلا أنها واصلت السير من دون انتباه باتجاه الاصطدام بالحائط. فبعد العدوان جرت الانتخابات التشريعية النصفية وفشل الحزب الجمهوري في الاحتفاظ بغالبية مقاعد الكونغرس. وبعده صدر تقرير لجنة بيكر - هاملتون الذي نصح الإدارة بإجراء اتصالات إقليمية تستهدف فتح كل الملفات من أفغانستان إلى غزة بذريعة المساعدة على تأمين انسحاب مشرِّف من العراق. وبعد العدوان أيضا جرى تبديل طاقم الإدارة الأميركية وخرج من واشنطن الكثير من الوجوه والرموز المحسوبة على تيار «المحافظين الجدد». كذلك وهذا هو الأهم أطلقت المخابرات الأميركية (16 جهازا) في نهاية 2007 قنبلة صوتية أعلنت في تموجاتها الهوائية أن إيران أوقفت الجانب العسكري من برنامجها النووي في العام 2003.
كل هذه الإشارات السريعة التي صدرت قبل تشكيل هيئة «14 آذار» وبعدها لم تنتبه لذبذباتها تلك القوى حين واصلت سياسة عدم الاكتراث لمعاني الغمزات واللمزات والقبلات الهوائية واللقاءات «الفنية» و«التقنية» و«الإجراءات العملية» التي جرت تباعا بين واشنطن وطهران وبين واشنطن ودمشق وأعلن عنها رسميا في أكثر من مكان ومناسبة.
الآن كما يبدو بدأت، كما يقال ويشاع، قوى «14 آذار» تستشعر بتلك المتغيرات والتقاطعات والتجاذبات وأخذت تلتقط تلك الإشارات الناتجة عن تذبذبات الفضاءات الدولية والإقليمية في إطار استراتيجية أميركية تستهدف إعادة تشكيل هيئة «الشرق الأوسط الجديد». فهل حقا أخذت تلك القوى بمراجعة خطابها السياسي أم أن الأوان قد فات؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2153 - الإثنين 28 يوليو 2008م الموافق 24 رجب 1429هـ