مهما تكن الذرائع التي ستقدّمها حركة «حماس» لتبرير الهجمة الداخلية التي أعلنتْ عنها رسميا ضد «فتح» ومختلف الفصائل المحلية فإنّ ما يحصل في قطاع غزّة يصبّ في مصلحة حكومة أيهود أولمرت. فالاقتتال الفلسطيني الذي تطوّر خلال السنوات الماضية وانتقل ميدانيا من سياق التنافس الأيديولوجي على برنامج «التحرير الكامل والشامل» إلى خطاب التخوين والاتهام بالعمالة في ظل «تسوية» جرى عقدها مداورة مع تل أبيب يشكّل انعطافة في مسار التعايش السياسي بين قوّتين تتجاذبان القضية.
«حماس» الآنَ انتقلت إلى «قفص الاتهام» بعد أنْ كانت في موقع الطرف الحريص على الوحدة الداخلية ومشروع التحرير الشامل والكامل وهذا الانتقال السريع من زاوية إلى أخرى يؤكّد وجود خطأ في سياسة «حماس» التي بالغت في قوّتها فارتدت عليها وعلى الشارع الفلسطيني.
حملة الاعتقالات والمداهمات التي قامت بها سلطة «حماس» في غزّة ضد القوى والفصائل الفلسطينية الأخرى المخالفة لوجهة نظر الحركة في أسلوب التعامل مع مشكلات القطاع تكشف عن بدء انتقال التعارض السياسي إلى طور متقدّم من التناقض الأهلي. فالحملة جرت تحت سقف خطاب التخوين واتهام «فتح» بالعمالة والوقوف وراء التفجيرات التي طاولت مراكز أو مواقع أو قيادات تنتمي إلى «حماس». وخطاب التخوين والاتهام بالعمالة الذي وصل الآنَ إلى شفير الاقتتال الداخلي تأسس على مجموعة معطيات تراكمت زمنيا خلال فترات شهدت فيها الأراضي الفلسطينية منازعات سياسية بين خطابين: الأوّل أيديولوجي تقول به «حماس» والآخر براغماتي اتبعته «فتح» بناء على تجربة طويلة في النضال والكفاح المسلّح.
التعارض الذي انتقل في غزّة إلى طور التناقض يطرح أسئلة بشأن خطاب «حماس» المبدئي وارتداده إلى الداخل الفلسطيني في وقت توصّلت فيه الحركة إلى عقد هدنة (تسوية مؤقتة) مع حكومة أولمرت اشتملت على ضمان «أمن إسرائيل» وتجميد إطلاق الصواريخ ومنع أيّ طرف فلسطيني من استخدامها. هذا التعهد الذي أعطته «حماس» لحكومة أولمرت من خلال التفاهم الذي أشرفت عليه الدبلوماسية المصرية شكّل نقطة براغماتية في خطاب اعتمد «الأيديولوجيا» واسطة للتمايز عن «فتح». وأظهر اتفاق التسوية الذي وافقت عليه «حماس» من خلال قناة القاهرة وجود توجّه لدى الحركة يعتمد الخطوط العريضة التي توصّلت إليها «فتح» في تجربتها العريقة. فالتسوية كشفت عن خلخل بين مشروع لا خلاف عليه وإمكانات متواضعة لا تستطيع التقدّم خطوة ميدانية إلى الأمام. وبدلا من أنْ تعترف «حماس» بالخطأ والتقصير والتورّط في معادلة لم تقرأ حساباتها بدقة وتتوجّه نحو التصالح مع فتح أخذت رويدا بالانقلاب على خطابها والارتداد إلى الداخل لكسر التوازن الأهلي مستخدمة القوّة لتحقيق هذه الغاية.
توقعات استباقية
المكان الذي وصلتْ إليه «حماس» اليوم نبّهت من احتمال حصوله «الجهاد الإسلامي» التي نصحت قبل نحو ثلاث سنوات الحركة من عدم التورّط في لعبة سياسية لا وظيفة لها سوى الانزلاق نحو تنازلات ستؤدّي إلى انقسامات أهلية وتراجعات عن المبادئ العامّة.
وفكرة «الجهاد» لم تكن شديدة التعقيد وصعبة لغويا حتى لا تفهم إشاراتها وتوقعاتها الاستباقية. فالفكرة اعتمدت البساطة في قراءة الواقع ورأتْ أنّ مشاركة «حماس» في الانتخابات النيابية ستؤدّي إلى توريط الحركة في مشكلات سياسية تستطيع الاستغناء عنها. وتوقعت «الجهاد» آنذاك أنْ تتحوّل الانتخابات إلى مشكلة داخلية ودولية. داخلية؛ لأنّها ستنقل التعارض من الشارع السياسي إلى تخاصم في البرلمان (مجلس النواب) على مواقع النفوذ. ودولية؛ لأنّها ستطرح على «حماس» مشكلة الالتزام باتفاقات أوسلو وبالتالي الإقلاع عن الكفاح المسلّح والاعتراف بحق «إسرائيل» في الوجود والقبول مداورة بالاحتلال.
انطلقت «الجهاد» آنذاك من سياسة اعتمدت المنطق الاستقرائي في تحليل المعادلة وحساباتها الداخلية والدولية. لذلك نصحت «حماس» بعدم الدخول في لعبة ستفرض عليها الشروع في تنازلات تمس مسلمات بررت وجودها وميزتها تقليديا عن «فتح».
إلاّ أنّ قيادة «حماس» قررت دخول المغامرة ضمن حسابات مغايرة لتلك التي توقعت حصولها حركة «الجهاد». وجاءت نتيجة الانتخابات التي أعطت غالبية برلمانية لحماس؛ لترسم خطوط تماس بين مراكز القوى فتشكّلت سلطة مزدوجة بداية ثم انقسمت ثم انشقت ثم انفصل القطاع عن الضفة (تمزيق صور القادة ودوس كوفية عرفات) إلى أنْ انتهت الدائرة إلى نقطة التوافق مع تل أبيب على تسوية مؤقتة (هدنة) تضمن فيها «حماس» أمن «إسرائيل» مقابل تخفيف الحصار الظالم عن القطاع والبدء في تفاوض غير مباشر بشأن تبادل الأسرى.
هذه الدورة في خطاب «حماس» ساهمت في تشكيل ذرائع تعطي شرعية للانقضاض على الداخل والالتفاف حول شعار التحرير الشامل والكامل تحت سقف أمن القطاع واستقراره وتخوين كل طرف يحمل السلاح أو يطلق الصواريخ (المحلية الصنع) على المستوطنات المنتشرة في الجنوب.
انقلاب «حماس» على خطابها وارتدادها إلى الداخل وتجميد المعركة مع حكومة أولمرت مقابل فتحها ضد الفصائل الفلسطينية، هي عناوين تؤكّد كلّها خطورة المبالغة في تقدير القوّة والتداعيات السياسية التي تنجم عن ضعف القراءة في لحظة التعامل مع المعادلات الدولية والإقليمية والمحلية. فحماس التي اتهمت فتح بالخيانة؛ لأنّها تحاول منعها من رمي الصواريخ على المستعمرات الإسرائيلية أخذت تتهم «الجهاد» و«كتائب الأقصى» و«الجيش الإسلامي» بالعمالة بذريعة استمرارهم في إطلاق الصواريخ بعد توقيع اتفاق التسوية مع تل أبيب.
هذه الدائرة التي دارت على «حماس» يمكن مقاربتها بالكثير من التجارب النضالية التي تبدأ في محاربة العدو وتنتهي في مكافحة الشعب ومطاردته واعتقاله بذريعة أنه يعطل المساومات والمفاوضات. وهناك عشرات الأمثلة يمكن إدراجها في سياق المقارنة في خطابات المقاومة من أفغانستان إلى العراق ولبنان. «القاعدة» مثلا وصلتْ في خطابها الأيديولوجي إلى حد تبرير قتل المدنيين والدعوة إلى «حروب أهلية» طائفية أو مذهبية بذريعة تمهيد الطريق لمكافحة الولايات المتحدة وتحرير فلسطين. فالأمثلة في مجموعها تشكّل في النهاية ذاك النموذج الذي تعبر الآنَ عن مأزقه حركة «حماس» في قطاع غزّة.
الارتداد إلى الداخل أصبح في بعض الأمكنة والحالات سمة من سمات بعض خطابات المقاومة؛ لأنّه يستخدم أحيانا المواجهة مع العدو غطاء سياسيا للتفاوض معه من جهة وإعادة استثمار التفاوض في سياق تحسين شروط التعارض في الداخل من جهة أخرى. والمشهد الارتدادي في خطاب حماس الذي ارتسم الآنَ في القطاع بدأ يتلوّن سياسيا في إطارات ثلاثة. الأوّل التفاوض مع تل أبيب من طريق القناة المصرية للتفاهم على صفقة تبادل الأسرى. الثاني تثبيت اتفاق الهدنة (التسوية المؤقتة) ومنع الأطراف الفلسطينية الأخرى إطلاق الصواريخ. والثالث الارتداد إلى الداخل ومطاردة الفصائل واعتقال العناصر وإقفال المكاتب السياسية والمراكز المدنية بتهمة العمالة والخيانة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2152 - الأحد 27 يوليو 2008م الموافق 23 رجب 1429هـ