نشرت مجلة «التايمز» الأميركية أخيرا تقريرا مميزا للكاتب ريتشارد ستينغل عنونه بـ «مانديلا: دروسه الثمانية في القيادة» وذلك بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد التسعين للزعيم والمناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، الذي برز ضمن أشد المقاومين لنظام الفصل العنصري «الأبارتهايد» في جنوب أفريقيا على مر العقود، ودفع ثمنا غاليا جراء نضاله المرير ذاك، فقضى 27 عاما سجينا في زنزانة بجزيرة روبن من دون أن يسمع خلالها «صياح طفل أو أن يمسك يد طفل»، بحسب الكاتب الذي يصف فيه شعور المناضل الإفريقي بالسعادة الغامرة حينما التقى بأطفال الكاتب.
وتكمن في نظري أهمية هذا التقرير الذي أراد له الكاتب كما كتب في أن يكون لحظة ختامية فارقة للقاء مميز ينثر فيه الزعيم لؤلؤ خبرته ودرر تجاربه في العمل السياسي وفي القيادة النضالية، هو أن هذا التقرير يبين كيف كان يلعب مانديلا بمرونة فائقة أدوار المحارب والفدائي والدبلوماسي ورجل الدولة من دون أن يخل بقوانين وقواعد أي منها، إذ أشار مانديلا للكاتب بتجرد بسيط هو أن القضية لم تكن سؤالا للمبدأ وإنما هي سؤالا للتكتيكات، فنيلسون مانديلا في النهاية هو سيد للتكتيكات كما أشار لذلك الكاتب.
ومن خلال استعراض نماذج معينة توجز لرؤية نيلسون مانديلا للقيادة وتصوره لها بناء على خبرته النضالية وحتى خبرته المعيشية مع قبيلته، فقد ذكر الكاتب نقلا عن مانديلا ثمانية دروس وقواعد رئيسية لابد أن يعرفها القائد ويمسك بخيوطها جيدا حتى يتمكن من تحقيق غايته المبدئية بأفضل ما هو متاح من سبل ومسالك، وأول هذه الدروس هو «الشجاعة ليست غياب الخوف وإنما هي إلهام الآخرين بإتباعها» حيث يستعرض الكاتب تحت هذا البنط الأولي إحدى تجارب نيلسون مانديلا المريرة أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية في العام 1994م حينما كان بصحبة وفد في طائرة، وتعطل أحد محركاتها بشكل مفاجئ وخشي من معه من سقوط الطائرة، وأبدوا تلك الخشية في الوقت الذي كان فيه مانديلا يقرأ باهتمام إحدى الصحف وهو جالس على مقعده، فما أن هبطت الطائرة حتى كشف مانديلا للبعض عن أنه قد اعتراه وجوم شديد من إمكان سقوط الطائرة كغيره وذلك أمر طبيعي، كما أنه كان خائفا أثناء محاكمته قبلها بفترة طويلة، إلا أنه لم يشأ أن يكشف ويبدي خوفه وهو الزعيم والمناضل أمام الناس، فلابد حينها من أن يقودهم ويشجعهم على التحرك نحو الأمام ويكون لهم نموذجا ملهما في مواصلة الصمود وعدم التضعضع والاستلام للخوف، كما وينقل الكاتب عن بعض رفاق مانديلا في السجن الذين رووا له كيف كان منظر مانديلا وهو يتجول في الفناء باعتزاز يشجعهم على مزيد من الصبر والصمود!
أما بالنسبة إلى الدرس الثاني فهو «قد من الأمام ولكن لا تدع القاعدة ورائك» وهنا يستعرض الكاتب تجربة مانديلا بعدما أصيب في السجن بتضخم البروستاتا في 1985م فنقل إثر ذلك إلى الخارج لإجراء عملية جراحية وبعد شفائه ورجوعه مرة أخرى إلى السجن تم عزله في زنزانة انفرادية لأول مرة منذ 21 عاما من سجنه، وقد تشاءم كثيرا من رفاقه في السجن من ذلك الإجراء واحتجوا عليه إلا أن مانديلا قال لهم «انتظروا لدقيقة يا رفاق فربما هنالك خير من وراء ذلك» كما نقل الكاتب عن رفيق مانديلا Ahmed Kathrada.
فما أن تم نقل مانديلا إلى زنزانة انفرادية حتى أتيحت له الفرصة ليباشر المفاوضات مع حكومة «الأبارتهايد»، وأقلقت في حينها خطوته تلك رفاقه، وأقضت مضاجعهم، ومنهم من ردد وتصور أن مانديلا بات على المحك من تصفية وبيع تاريخه النضالي ومبادئه لصالح حكومة «الأبارتهايد»، إذ مثلت خطوة مانديلا بالنسبة للمؤتمر الوطني الإفريقي كما لو أنها لعنة وذلك بعد مقولة «السجناء لا يمكنهم أن يفاوضوا» و من بعد الدفاع عن النضال المسلح لإجبار الحكومة على الركوع والجثوم كما أشار لذلك الكاتب!
وعلى الفور من بعد استهلال مفاوضاته مع الحكومة شرع مانديلا في إقناع رفاقه بتأنٍ بجدوى المفاوضات فردا فردا حتى تمكن من إقناعهم وهو ما يعني ضرورة الاستناد إلى القاعدة لمواصلة التقدم في النهاية، كما أن رفض التفاوض هو خيار تكتيكي وليس مبدئيا بالنسبة إلى مانديلا الذي يوصف بأنه أكثر المثاليين براغماتية وعملية وفقا للمؤلف الذي نقل قولا للأمين العام للمؤتمر الوطني الإفريقي رامفوسا وذلك حول مانديلا كقائد قال فيه «هو ليس من صنف القائد الذي يعلك علكة حاليا ويرميها بعد ذلك»، وبحسبه فقد كان مانديلا سباقا على رفاقه في رؤيته التاريخية بعيدة المدى التي لا تقاس بأيام وأسابيع وإنما بعقود وأجيال، إذ إنه لطالما آمن أن التاريخ بجانبه وهي ليست سوى مسألة وقت حتى تتصحح الأوضاع في النهاية مهما طال هذا الزمن.
وفي ما يتعلق بالدرس الثالث في القيادة فهو «قد من الخلف ودع الآخرين يعتقدوا بأنك في الأمام» فيجلي الكاتب اهتمام مانديلا باستذكار أيام صباه حينما كان يرعى الماشية ويعلق على ذلك بقوله «لا يمكنك أن تقودها إلى من الوراء» كما تأثر مانديلا كثيرا بالزعيم القبلي جونغينتابا الذي رباه واعتنى به، والذي حينما كان يجتمع مع أعضاء مجلسه فإن الأخيرين يحيطونه بشكل دائري ومن بعد أن ينتهوا جميعا من الحديث فإن الزعيم يبدأ بعدهم بالحديث، فمهمة الزعيم الرئيسي بحسب مانديلا لا تتعلق بتوجيه الأوامر للشعب للتحرك وفقها، وإنما مهمة الزعيم هي خلق وتكوين الإجماع، كما أنه لطالما اهتم بعبارة «لا تدخل المناقشة مبكرا جدا».
ويشير ستيرلنغ إلى أنه وحينما يلتقي مانديلا برفاقه في الاجتماعات فقد دأب بشكل ممنهج وبطيء على تدوين آرائهم ومن ثم إبداء رأيه الشخصي بمنتهى اللطف والرقة ليوجه ويوحد آراء الرفاق من دون أن يؤثر فيها ويفرض عليها ما لا تطيق، فمثل ذلك السلوك الماهر هو ما يسمى بـ «حيلة القيادة» التي تتبين حينما تسمح لنفسك وأنت القائد بأن تقاد أيضا وتساهم في إقناع الرفاق برأيك حتى يعتقدوا كما لو أنه رأيهم وفكرهم!
وبخصوص الدرس الرابع من دروس مانديلا للقيادة فهو «اعرف عدوك وتعلم عن رياضته المفضلة» وهنا يستعرض الكاتب تجارب المحامي نيلسون مانديلا منذ الستينات في تعلم تاريخ ولغة وثقافة «الأفريكانيرز» وهم الجنوب إفريقيين من أصول أوروبية، وقد استشنأ عليه البعض من رفاقه ذلك، إلا أن مانديلا لم يكترث وواصل اطلاعه وتعلمه وزيادة معارفه في ما يتعلق برياضة «الرغبي» وهي الرياضة المفضلة لدى شعب «الأفريكانير» وتدوين ملاحظاته التفصيلية حولها.
كما يروي الكاتب عن جهود المحامي مانديلا حينما كان سجينا في مساعدة سجانيه في مشكلاتهم القانونية وهو ما أثار في حينها إعجابهم واستغرابهم من ذلك كما يستشهد الكاتب بمقولة المؤرخ الجنوب إفريقي البارز أليستر سباركس حول ذلك «أدرك مانديلا بأنه حتى الأسوأ والأكثر جفاء من الممكن أن تتفاوض معه».
وللحديث بقية إن شاء الله.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2152 - الأحد 27 يوليو 2008م الموافق 23 رجب 1429هـ