تتأرجح صورة العالم العربي والإسلامي بين مقاومة فرضت نفسها وصنعت إرادة التغيير، وبين مذعورة، مهزومة، صامتة، تنظر إلى الجلاد الذي ينهال عليها ضربا، فلا تطالب بأكثر من تقليص ضربات السياط.
في الحالة الأولى، يطل لبنان بشعبه الأبي ومقاومته الشريفة المعطاء، التي تمثل خلاصة نوعية مصفَّاة لمقاومات الشعوب العربية والإسلامية ضد المحتل والظالم والغاصب، فيقدِّم لبنان نموذجا حضاريا في العمل الجهادي والسياسي تأبى الأنظمة أن تحتذيه، لا بل هي عملت ولاتزال تعمل على إجهاضه ومنع شعوبها من أن تتأثر به.
لقد استطاعت المقاومة في عملية تبادل الأسرى والمحررين، لا أن تؤكد صدقيتها وأحقية حركتها فحسب، بل أن تجعل العدوَّ الإسرائيلي يتراجع عن لاءاته، ويكشف عن حقيقة أوضاعه... هي أقرب ما تكون إلى صورة الأنظمة العربية التي تنازلت عن لاءاتها وحولتها إلى «نعم» خاضعة ومتهالكة.
في هذه الأيام، يقف العالم، ولاسيما العالم العربي والإسلامي، أمام المقاومة التي أجهزت على القوة الإسرائيلية الموصوفة سابقا بأنها لا تقهر، وأجبرتها على كسر قرارها في الامتناع عن إطلاق الأسرى الذين قاتلوا جنودها بكلِّ شجاعة وصلابة وبسالة.
وفي مقابل ذلك، ينطلق السؤال: ما الذي أنجزه المعتدلون العرب المتحالفون مع أميركا والمتصالحون مع «إسرائيل»؟ لقد هادنوا العدو، واستجابوا لرغباته، وتعلقوا بخريطة الطريق التي أعطت الأولوية لنزع سلاح المقاومة، وهرولوا إلى «أنابوليس» لكي يؤكدوا مرجعية الخطة الأميركية ويسلموا بالإشراف الأميركي على تنفيذها، فيما تراجع العدو عن كل ما التزم به، فواصل زحفه الاستيطاني واستيلاءه على الأراضي الفلسطينية، واجتياحاته ومجازره واعتقالاته، وتمسكه بيهودية الدولة كمقدمة لطرد «عرب 48» من ديارهم، ولم يطلق سراح الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين، ولم يقدم للسلطة الفلسطينية ورقة واحدة قابلة للاستثمار.
إن هذا الإنجاز النوعي الكبير للمقاومة الإسلامية في لبنان، يمثل رسالة أخرى من رسائل الإلهام للشباب العربي، ليكون حاضرا في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه، وليقف إلى جانب المقاومة وقضايا الأمة في مواجهة «إسرائيل» ومن يسير في خطها.
وليس بعيدا من ذلك، لقد بدأنا نسمع كلاما خافتا في مكان، ومعلنا في مكان آخر، عن أن المقاومة قامت بما هو مطلوبٌ منها، وبقي على الدولة أن تعمل على تنفيذ القرارات الدولية، ونحن لا ندري لماذا يستعجل هؤلاء الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها «إسرائيل»، ولا ندري هل أن القرارات الدولية أصبحت إنجيلا أو قرآنا عند هؤلاء غير قابلة للمناقشة وإثارة الجدل حولها، أو في كونها انطلقت من خلفيات تتصل بمصلحة «إسرائيل» أولا وآخرا، ومن خلال سيطرة أميركا على مجلس الأمن؟!
إننا نقول لهؤلاء: رويدا، فإنَّ ما يصوغه اللبنانيون من خلال حوارهم ووحدتهم هو أهم وأقدس وأطهر من كل هذه القرارات التي كانت السبب الأساس فيما أصاب البلد من تشتت وتمزق وضياع. وإن على هؤلاء أن يتعلموا من «إسرائيل» أنها لا تحترم أي قرار صادر عن مجلس الأمن إذا لم يتوافق مع مصالحها.
تعديات قانونية وانتهاكات حقوقية
وفي الجانب الآخر، تبرز سابقة في العلاقات الدولية والقانون الدولي، وخطوة تعتبر من أخطر التعديات الخارجية على السودان واستقلاله وسيادته واستقراره، تتمثل في طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية توجيه أول مذكرة توقيف دولية ضد رئيس دولة عربية، هو الرئيس السوداني عمر حسن البشير، في ظل موقف عربي ضعيف يغري الآخرين بتوسيع نطاق الهجمة على الأمة واستفراد مواقعها الواحد تلو الآخر، وفي ظل دعوة من الجامعة العربية إلى اجتماع عاجل، ولكن بعد أسبوع تقريبا من توجيه الاتهام، الأمر الذي لا يعطي الانطباع عن كيفية التعاطي العربي مع الأمور المستعجلة فحسب، بل يشير أيضا إلى أن الموقف سيكون هزليا متراخيا كما جرت العادة. إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى أن تقول كلمتها بصوت عالٍ في مواجهة هذا الاستفزاز وهذا التطاول اللذين يراد من خلالهما تمزيق بلادنا أكثر مما هي ممزقة، وتفتيتها أكثر مما هي مفتتة، وإثارة الفوضى فيها لتسهيل اختراقها أمنيا واستخباريا واقتصاديا وسياسيا، وخصوصا السودان الذي عملت أميركا على إثارة الاهتزاز فيه بما يمهد للسيطرة على ثرواته، وينشر حال الفوضى واللاستقرار من حوله.
إننا نتساءل: أين هي محكمة الجنايات الدولية أمام الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني قتلا وتجويعا وحصارا؟ وأين دورها حيال جرائم الرئيس الأميركي وقواته المحتلة في العراق وأفغانستان، أو أن عنوان العدل لا يمكن تحريكه إلا في مواجهة العرب والمسلمين، لتكون المحاكم الدولية غطاء لمشروعات أميركية وغربية وحتى إسرائيلية؟
وفي مسألة أخرى، نتوقف عند المؤتمر الذي عقد في باريس تحت عنوان «الاتحاد من أجل المتوسط»، والذي حاول في بيانه أن يؤكد شرعية الكيان الصهيوني، باعتبار «إسرائيل» دولة - أمة، ليوحي بوجود شعب يهودي يقيم في أرضه، مع أن العالم كله يعرف كيف جاءت العصابات الصهيونية مدعومة من الغرب لتطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتقيم كيانا جمعت فيه يهود العالم الذين يواصلون مجازرهم ضد الفلسطينيين ويتوإلى زحفهم الاستيطاني، ولا يصدر عن الغرب أو دول الاتحاد الأوروبي إلا كلمات خجولة توحي بالموافقة الضمنية على هذا الاقتطاع التدريجي لأراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، أكثر مما توحي بالرفض والاستنكار.
إننا نسجل على هذا المؤتمر تجاهله للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وتجاوزه حتى للقرارات الدولية القاضية بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، مع علمنا بأن صورة الوضع العربي تغري القائمين على مؤتمرات كهذه، بالإمعان في تجاهل القضايا والحقوق العربية، وخصوصا في ظل سعي هذه الدولة العربية أو تلك لقطع الطريق على دولة عربية أخرى ومنعها من تجاوز حدود الحصار الدولي لها.
لبنان... لبناء وطن حر مستقل
وبالعودة إلى لبنان، فإننا نريد للحكومة الجديدة التي اتفق السياسيون عليها، ألا يرى أعضاؤها مواقعهم شرفا يتميزون به، بل مسئولية يتحملونها... وإذا كانوا يتحدثون عن حكومة وحدة وطنية، فإن عليهم أن يلتزموا الوحدة الوطنية اللبنانية، بحيث تسقط كل الطموحات الذاتية والطائفية أمام الطموح الكبير لبناء وطن جديد حر مستقل يلتقي مواطنوه على ما يرفع مستوى وطنهم اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، من أجل أن يأخذ موقعه الحضاري المميز في عنفوانه السياسي، وفي مقاومته الشجاعة، وفي إنسانية إنسانه الذي هو أكبر من الزاحفين على بطونهم طلبا لمال هنا أو وزارة ونيابة هناك.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2149 - الخميس 24 يوليو 2008م الموافق 20 رجب 1429هـ