قياسا على هذه النظريات التي استعملتها الفئات العربية الحديثة بشكل خاطئ، لم تستطع تقديم التفسير العلمي لظاهرة نشوء الاستقطابات الدينية السائدة وفق منطق نفي التطور الرأسمالي الحديث في البلدان الإسلامية. ولم يقتصر الموقف الانسحابي عند نقطة العجز النظري، بل ترافق ذلك مع العجز السياسي الذي عبر عن نفسه تارة بالدهشة والإعجاب الظاهريين، وطورا بالخوف والانكفاء على النفس. وعلى رغم ذلك أصرت بعض الفئات الحديثة على تقديم تفسيرات خاطئة لحركة الاستقطابات، فحاولت إعطاء صورة عصرية لحركة التيارات الدينية، مما جعلها تستخلص في ما بعد أن هذه الحركات في نهاية الأمر رجعية، ويجب الحذر منها أو محاربتها منذ الآن. وجاء هذا الإصرار ليلقي ظلالا من الشك بشأن صحة المواقف السياسية للفئات الحديثة، ليس من ناحية خوفها الايديولوجي فقط، بل من ناحية ارتباطات بعض أطرافها بمصالح الغرب، أو على الأقل استفادة بعضها من استمرار سيطرة الغرب على البلدان الإسلامية. وربما تكون هذه الناحية هي السبب الرئيسي في عناد البعض، وفي اندفاع البعض الآخر، للتشكيك بالتيارات الدينية المقاتلة ضد نفوذ الأجنبي ونماذجه في مختلف المناطق الإسلامية. ولكن على رغم العناد النظري الحداثي المذكور، وعدم صحة الاستنتاجات السياسية، تبقى الأسئلة مطروحة، ويبقى التحدي طارحا نفسه على أرض الواقع، ويبقى المطلوب المزيد من المحاولات لفهم آخر لحركة الواقع، وبالتالي إلى وعي مطابق للتداعيات التي نشهدها.
ما هي جذور حركة الاستقطابات الدينية على المستوى التاريخي؟ يمكن القول إن التحركات التي تشهدها مختلف الأقطار الإسلامية والعربية تشكل حالات من الاصطراع السياسي والاجتماعي والفكري. فالمناطق الإسلامية التي شهدت تعاقب السلطات النخبوية والقمعية عليها لم تستطع حتى هذه اللحظة أن تمتلك نفسها، أو تستعيد ذاتها، لتلعب دورها المستقل على المستوى العالمي. ولاتزال الشعوب الإسلامية والعربية حتى الآن، مستقرة تحت وطأة الطغيان التسلطي - الاقلي المرتبط بالغرب، والتابع لثقافته الفكرية وسيطرته الاقتصادية. وإذا كانت هذه الشعوب تشهد نهضة مضادة وسلبية ضد جميع أشكال السيطرة والهيمنة، وضد مختلف أساليب القمع والتغريب والتهميش، فإن ذلك لا يعني أن هذا النهوض السلبي يحصل للمرة الأولى، ولم يسبق أن شهدت هذه المناطق مثل هذه الاضطرابات المتعددة الوجوه والوسائل. ويمكن اعتبار أن الصراعات التي نشهدها اليوم، هي امتداد لصراعات سابقة حصلت في منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. والاستقطابات السياسية والفكرية والاجتماعية التي تحصل اليوم ما هي إلا تتمه تاريخية لاستقطابات سابقة ظهرت في فترات متقطعة في السنوات الماضية.
إذا أردنا أن نقيم بعض التمييز بين تلك الفترات السابقة المتقطعة، والفترة التي نمر بها اليوم، فإن هذا التمييز يستقيم بعد الاعتراف بأن التيار الثوري الإسلامي قد هزم نسبيا في مطالع القرن الماضي، نتيجة لموجات التغريب الثقافية، وسيطرة المفاهيم الغربية. ولا شك أن سيطرة الثقافة الأوروبية، واستلابها الكثير من الفئات ليس مجرد مسألة تفصيلية بسيطة، بل هي نتاج صراع تاريخي مديد ومعقد، استقر في نهاية الحرب العالمية الأولى بعد أن بسط الغرب سيادته العسكرية على المنطقة. هذه «الهزيمة» السياسية والاقتصادية النسبية لا يمكن فصلها عن التحولات التي حصلت على مستوى التوازن الدولي في ذلك الوقت، أدت إلى غلبة التيار التغريبي، ومد نفوذه إلى مختلف أرجاء العالم الثالث، والبلدان الإسلامية. ولكن هذه «الهزيمة» لم تكن تعني على الإطلاق نهاية هذا التيار وزواله، بل إنها جاءت لتعكس نسبة توازن القوى الدولي، الذي سقط بثقله على الشعوب الإسلامية والعربية.
منذ تلك «الهزيمة» لم يتوقف الصراع بل امتد بأشكاله المتعددة والمتفاوتة، لينتظم بعد وقت طويل في موجات من المقاومة السلبية والعنيفة لمختلف أشكال السيطرة والهيمنة والقمع. هذه الموجات المتصاعدة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، حملت معها بزخم وقوة المفاهيم الشعبية السائدة في كل مكان، كما أنها أبرزت إلى السطح السياسي تيارات وقوى تقاوم بشدة وعنف كل محاولات الاستلاب والتغريب والتهميش. ولذلك فإن التمييز الذي يمكن أن نقيّمه بين الفترة السابقة والفترة الجارية يتلخص في المسألة الآتية، وهي: أن هزيمة التيار الثوري الإسلامي في مطالع القرن العشرين تعكس انتصار الغرب العسكري والاقتصادي والسياسي على المناطق الإسلامية، بينما عودة التيار الثوري الإسلامي إلى النمو مجددا في المرحلة الراهنة تعكس بداية هزيمة الغرب على جميع المستويات.
من خلال هذه المسألة التاريخية، التي تساعدنا على التمييز بين المنعطفات التي شهدتها المنطقة العربية - الإسلامية في ظل الضغوط الدولية وتوازن القوى العام، نستطيع القول إن مختلف التيارات النخبوية الفكرية والثقافية التي سادت البلدان الإسلامية والعربية آنذاك كانت من نتاج الغرب، ومثلت الوجه المضاد للتحرر والاستقلال الذي برز على أثر «هزيمة» التيار الثوري الإسلامي.
التيارات الحداثية هذه ترافق نموها مع سيطرة الغرب على المنطقة اقتصاديا وسياسيا، ونجحت في الانتشار بعد سيادة مفاهيمه على امتداد حقبة تاريخية طويلة نسبيا، وعلى رغم نجاحها النسبي هذا لم تستطع اجتثاث الثقافة الإسلامية الكامنة في داخل أعماق شعوب المنطقة. من هنا ليس غريبا أن تشهد المنطقة يقظة إسلامية تعبر عن نفسها في استفاقة سياسية وثقافية وفكرية، تحمل معها أصول الماضي لتحارب به الواقع الراهن، لتعود وتدفع به نحو العودة إلى الأصول.
هذه الاستفاقة هي الإطار العام لنوع من استعادة الصراع السابق في ضوء بداية هزيمة هيمنة الغرب ومرحلة انهيار تفوقه. والاستعادة التي نشهدها اليوم تحمل في طياتها وجها من وجوه عملية الثأر للهزيمة الماضية، بعد أن نجح الغرب في الخروج من حروبه الداخلية منتصرا وحاول بسط سيطرته على الشعوب «الخام» بقصد «تصنيعها» على شاكلته. لذلك فالمعارك التي نشهدها اليوم، لا تقتصر على خوض المجابهة ضد السيطرة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغربية، بل تشتمل على عدة وجوه ثقافية وفكرية وإنسانية.
لا شك في أن من أهداف هذه المعركة العمل من أجل صوغ منهج مفهومي له أدواته الخاصة لمعرفة خصائص مجتمعنا، وبالتالي لمعرفة خصائص أشكال النضال والقتال ضد الغرب. هذا البعد المعرفي لمعركة اليوم أخذ يتشكل في المدة الأخيرة في منهجية ثقافية سياسية، تشد في إطارها العام الكثير من الفئات الاجتماعية المصطدمة موضوعيا مع مصالح الغرب أو الرازحة تحت سيطرته وهيمنته. كما أن هذا البعد المعرفي أخذ يشق طريقه نحو التبلور بصيغ مفهومية، تحت وطأة المجابهة المتعددة الوجوه، التي أخذت تدخل في قنوات من الصراع الفكري والسياسي مع فئات تحمل في رأسها مفاهيم لا تستطيع بها فهم تعقيدات الواقع وبالتالي تعقيدات المجابهة مع نماذج الغرب. وفي مثل هذه الحالة، كان من الطبيعي ألا تقتصر المجابهة مع نماذج الغرب المسيطر اقتصاديا وسياسيا، بل مع فئات حاولت وتحاول محاربة الغرب بمفاهيمه.
الفئات العربية الحديثة التي انتعشت أفكارها في ظل هيمنة الغرب، لم تكن موجودة في مرحلة مقاومة البلدان الإسلامية والعربية لمحاولات مد نفوذه، وهي إذا وُجِدت كانت عاجزة عن إنهاء سيطرته أو بلورة تيار جماهيري مقاوم لتلك الهيمنة. فالمعروف آنذاك، أن الغرب خاض معارك ضارية ضد التيار الإسلامي التقليدي أو المقاوم، وبعد انتصاره بدأت الأحزاب الحداثية تنبت كالفطر على أساس أفكاره.
من هنا، نفهم عجز هذه الفئات عن تشكيل البديل التاريخي، ونستطيع إن نفسر عزلتها السياسية وفشلها في استقطاب الأكثرية الساحقة من الشعوب الإسلامية والعربية إلى جانبها ضد نماذج الغرب. وفشل جميع محاولات الاستقطاب لا تعود إلى نوعية القيادة السياسية ودورها في إدارة الأحزاب والمنظمات، بل تشمل نوعية الفكر والنهج الذي تحمله. فالمأزق الذي وصلت إليه هذه الفئات في المرحلة الراهنة، لا يكفي تفسيره بأزمة القيادة الحزبية فقط، بل بأزمة الفكر والنهج الذي يحكم هذه القيادة فضلا عن بدائلها الجديدة ايضا.
وعملية تلخيص المأزق بمشكلة القيادة الحزبية الراهنة، واستبدالها بقيادة جديدة، ومن النوعية نفسها لا تساعد على حل المشكلة، بل تقدم المزيد من التعقيدات والعقبات في وجه التغيير المطلوب. وما عملية الفصل التي يقيمها البعض بين أزمة القيادة وأزمة الفكر والنهج، إلا محاولة لتطويل الأزمة وتكريس المأزق الذي تشير إليه هذه الفئات السياسية الحداثوية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2149 - الخميس 24 يوليو 2008م الموافق 20 رجب 1429هـ