العدد 2149 - الخميس 24 يوليو 2008م الموافق 20 رجب 1429هـ

بائع الـورد... «عصام»

مريم الشروقي maryam.alsherooqi [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

تعرّفت قبل 6 سنوات إلى ذلك الصبي «عصام» الذي يبلغ من العمر 14 ربيعا، حيث كان يقبل كل يوم عند إحدى زوايا شارع المعارض، بالقرب من إحدى الصيدليات، ليبيع وردا أحمر مغلفا بورق السوليفان.

بين يوم وآخر كنت أذهب وأنا في قمة الحزن لأشتري حاجيات والدي المريض (رحمه الله)، فأذهب إلى هذه الصيدلية وأجد «عصام» ينتظرني بوردة حمراء، تعطيني الأمل بقرب شفاء والدي. وكنت أشتري هذا الورد تشجيعا لـ «عصام»؛ إذ إنه لفت انتباهي بوجوده في ساعات متأخرة من الليل، ليبيع وردا في شارع المعارض على رغم صغر سنه.

فما كان مني إلا أن أسأله عن السبب الكامن وراء السماح له من قِبل أهله، للبيع في ساعات متأخرة من الليل، ففاجأني برّده الحزين الذي يحمل في طياته رجولة صبي القرية هذا!

لقد كان «عصام» أكبر إخوانه، وبعد تردّي الوضع المعيشي لأبيه، بسبب مرض عضال ألّم به، ما كان من «عصام» إلا أن يصرّ على إعالة أهله، وكانت تواجهه مشكلة حبّه للدراسة، التي من المستحيل أن يتركها لأي سبب كان.

فكّر «عصام» مليا في هذا الحال، واتخذ قرارا صعبا على من في مثل سنه الصغير، واشترى بسعر زهيد «منشفة وسلة»، لغسل السيارات في شارع المعارض؛ لأنه كان يظن بأن العمل في هذا الشارع الحي يناسب وقته الضيق، ليوفّق بين دراسته وبين عمله الذي سيعيل أهله من خلاله.

توالت الأيام وكان «عصام» يحصد من غسل السيارات مبلغا مناسبا جدا، إذ كان يحصل على ما يقل عن 10 دنانير في اليوم الواحد، وهذا المبلغ كان يكفيه لمساعدة عائلته.

ولكنه كان يطمح إلى جمع المال ليستقر وضعه المادي مع نهاية العام لكي يتفرّغ للامتحانات النهائية؛ فقام بشراء مجموعة من الورود الحمراء، وأخذ ببيعها عند الشارع نفسه، وكان يحصل في كل يوم على 20 دينارا تقريبا.

لقد أثبت هذا الصبي رجولته، ولم يبق عالة على وطنه بل حاول قدر المستطاع أن يكسب رزقه وأن يكسو أهله، على رغم الصعاب والشدائد التي تواجهه كل يوم، فلم يكن كبقية المتذمرين الذين لا يرضون بأي عرض تعرضه عليهم حكومتهم، ولم يكن كباقي المحبطين الذين اتجهوا إلى النوم داخل غرفهم، وأصبحوا ثقلا على أهلهم وعلى وطنهم.

مع رفضنا لعمالة الأطفال وإصرارنا على حفظ حقوق الطفل في أي مكان وزمان، إلا أن هذا الصبي الرجل قد أثبت أنّه مواطن مخلص، وأثبت لي أولا ولمن يقرأ هذه القصة ثانيا، أنه على رغم الصعاب لا بد أن يأتي ذلك اليوم الذي ينفرج فيه الهم ويتوسع فيه الرزق.

وإنني إلى اليوم أنتظر أن أرى بائع الورد «عصام»، وأن أرى ما وصل إليه هذا الولد الطموح، وخاصة بعد انقطاع الوصل بيني وبينه، لعدم ذهابي إلى تلك المنطقة بعد وفاة والدي لمدة طويلة جدا.

وأختمها بأبيات للإمام الشافعي (رحمه الله):

ولربَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتـى ذرعا وعـندَ الله منها المـخرجُ

ضاقت فلما استحكـمت حلقاتها فُرجت، وكنت أظنّها لا تفـرجُ

إقرأ أيضا لـ "مريم الشروقي"

العدد 2149 - الخميس 24 يوليو 2008م الموافق 20 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً