في مقالته « Historical imagery and public memory» يشير « دافيد كوسالكا » الى ان الذاكرة الشعبية هي بمثابة حقل عراك على الهوية بالنسبة للجماعات العرقية، وان رموز التاريخ تظل أسلحة في تلك المعركة، إذ إنها لاتلم شعث الثقافة حول المستويات والمعايير المشتركة للتاريخ فحسب وانما تستخدم - أي الرموز - كسيوف مبارزة قاتلة في المعركة من أجل السيطرة على قدر الثقافة. وأظنه يعني بقدر الثقافة هنا ذلك الخط المتوهم في النظر والقراءة... قراءة مجموعة البنى والمضامين التي ترمي الثقافة الى إيصالها.
شكل البحث في الهوية مأزقا لعدد من المتخصصين في هذا المجال، ذلك انها مرتبطة بعدد من المباحث المعقدة ذات الصلة بالتكوينات الأولى للمجتمعات وبكل ماتتضمنه تلك التكوينات من تفريع. واذا ماألحقت الذاكرة بموضوع الهوية يصبح الأمر أكثر تعقيدا بسبب أن ارتباطا قائما لايمكن اهماله أو تجاوزه. ففيما تذهب الهوية رافعة عناوينها العريضة والغائمة أحيانا. .. تذهب الذاكرة لاسترجاع وأحيانا لتأكيد الهوية عبر صور ومفاصل وأحداث «تقول الكائن» على حد تعبير كوسالكا.
كوسالكا، وعبر تتبعه لنسق الهويات يمعن في تفكيك بنى ظلت من المسلمات والبدهيات خاصة فيما يتعلق بضرورة التفريق بين هوية المجموعة في حيز قائم على «العصبة» ... وهوية الفرد في حيز قائم على التفتت والانغلاق، اذ يرى في الأولى أنموذجا قابلا هو الآخر للتفتت والانغلاق في ظل تراجع مستويات التعرف على الآخر والقراءة المعمقة لاستراتيجيات الاحتواء والتسلط والهيمنة التي تتطلع اليها... بينما يرى في الثانية «هوية الفرد» امكانية تجاوز الصورة والواقع القائم من خلال عدد من التكتلات والتجمعات التي يمكنها أن تعيد صوغ الطريقة التي تحياها عبر استدعاء حال من العصبوية /الفردية/الجماعية .. تمثلا لاستئناف واقع وقدر جديدين على حد تعبيره.
من «كولومبوس» ... والإبادة التاريخية للهنود الحمر ... والحرب الأهلية ... مرورا بتركيبة السلطة في مجتمع قائم على تحالفات وتمركزات اقتصادية بحتة ... يصل كوسالكا الى نتيجة مفادها ... أن الهوية تتلخص في «روح السيطرة على المنافذ» ... منافذ الانتاج على مستوى الإعلام والصناعة والتعليم والمخابرات وحتى مختبرات الجينات الوراثية.
لم يغفل كوسالكا هوية التعاطي مع الصراعات في العالم من قبل عدد من الرموز والقيادات السياسية الأميركية ابتداء بكولومبوس .. «الفاتح الأحمر» كما يسميه ... عبر تراجيديا الدم والمذابح ... وليس انتهاء بريجان، المؤسس الفعلي لهوية أميركية تنزع نحو السيطرة على قدر العالم! .. وهو ماحدث ابتداء بتسلم الجمهوريين لمقادير اللعبة الجديدة والتشكيل الملهاة .. «لعالم يسوده منطق الآلة والأزرار» على حد تعبيره.
هل يتسنى للعالم أن يتمرد على تشكيل الهويات المفروض من قبل قوى لاتحرص على هويات فعلية وحقيقية للآخرين بقدر ماتسعى لفرض هويتها على عالم منهك بالصراعات والجوع والأيدز والحكومات الإلكترونية؟ وهل نحن بصدد بزوغ وتشكل هويات الكترونية؟ يظل السؤال قائما، والإجابة يتركها كوسالكا في مهب رياح العالم الجديد!
العدد 2149 - الخميس 24 يوليو 2008م الموافق 20 رجب 1429هـ