هناك أمر غريب بالنسبة إلى بغداد، إيران هي القوة الإقليمية الوحيدة التي لها سفارة فيها، بينما يرفض حلفاء الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، كمصر والأردن والسعودية أن يسمحوا لدبلوماسييهم بأن يقيموا هناك.
لا يعود سبب هذا إلى قلة الجهود الأميركية، فقد أثارت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس هذا الأمر الشاذ مع جيران العراق العرب مرات عدة، كما أثاره دبلوماسيون أميركيون أقل مرتبة منها، ولكن ذلك لم يجدِ حتى الآن.
يذكر الأردن كيف جرى تفجير سفارته في العراق من قِبَل تنظيم القاعدة العام 2003، بينما تتشبث مصر بكون سفيرها هناك قد تعرض لكمين أدى إلى مقتله. في هذه الأثناء تتمتع إيران بأفضل العلاقات الودية مع حكومة عراقية منذ عقود كثيرة.
سمح سقوط صدام حسين لإيران بتوسيع نفوذها في العراق. كما أنه مكن القاعدة من تدريب آلاف الشباب وإرسالهم إلى العراق لمهاجمة الأميركيين. وما من شك أن الكثيرين سيظهرون في دول أخرى فيما بعد، بحثا عن أهداف أميركية جديدة. هذان مجرد سببين لكون الاحتلال الأميركي هزيمة لبوش.
إذا كانت المخاوف الأمنية هي العامل الوحيد وراء عدم استعداد الحكومات العربية إرسال دبلوماسييها إلى بغداد، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذا السوء بالنسبة إلى بوش. إلا أن السياسة تلعب دورها كذلك. يتردد الزعماء العرب في أن تكون لهم أية صلة بالحكومة العراقية ذات الزعامة الشيعية، والتي ينظر إليها البعض على أنها طائفية بشكل زائد ولا سيادة حقيقية لها. وبالنسبة إلى الكثير من اللاعبين المستقلين، تفتقر الحكومة الحالية إلى الشرعية والسلطة.
منذ بدء الزعماء القبليين السنة بمحافظة الأنبار في مقاومة القاعدة العام 2006، في حركة تدعى «الصحوة» أصبح هناك اضطراب سياسي في المناطق ذات الغالبية السنية.
انتاب الجيل الأقدم من السياسيين السنة في بغداد قلق أكبر، خوفا من أن يوصفوا بالضعف في تعاملهم مع حكومة الغالبية الشيعية والأميركيين. لهذا السبب جاء رفضهم المشاركة في الحكومة إلا إذا أُعطوا إثباتات جادة بأنه سيكون للسنة حصة حقيقية في السلطة.
إلا أن الأمور لا تسير جيدا على جبهة رئيس الوزراء نوري المالكي الشيعية أيضا. فقد انسحب وزراء مقتدى الصدر المعادين للاحتلال من التحالف قبل شهور عدة، وهو الآن ينادي بتظاهرات احتجاجية أسبوعية ضد الاتفاقية الأمنية طويلة الأمد التي تريد واشنطن توقيعها مع بغداد.
ويُقصَد بالاتفاقية أن يكون إرث بوش للشعب العراقي: وثيقة تسمح لجنود الولايات المتحدة أن يبقوا في الدولة بشكل دائم. قد تكون هناك صياغة مثل «لا قواعد دائمة»، ولكن بما أن تعريف «غير دائمة» تعبير مرن بشكل كبير فإن الباب سيبقى مفتوحا لوجود أميركي طالما يجد الرئيس الأميركي الأمر مستداما لدى قاعدته الانتخابية.
ويطالب الصدر بإجراء استفتاء بشأن الاتفاقية. في هذه الأثناء، يتذمر وزراء برلمانيون من أحزاب أخرى من أن الاتفاقية تجري صياغتها خلف أبواب موصدة من دون توفير فرصة للجمهور لرؤية نصها والتعليق عليه. وتشكل مناداة الصدر بإجراء استفتاء مجرد طرف الجبل الجليدي الشعبي من عدم الرضا في أوساط أجزاء واسعة من الجمهور العراقي الذي يشعر بأنه استُثني من حوار رئيسي بشأن السيادة.
في خضم هذه الكآبة يشير بوش إلى نشر 30000 جندي أميركي إضافي على أنه نصر، وأنه قد ساعد، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، على تحقيق انخفاض في الهجمات على المدنيين العراقيين، ويجب الترحيب بذلك. إلا أن معدلات القتل لم تنخفض عنها في العام 2005، والأهم من ذلك أن نشر القوات هذا لم يساعد على حل الخلافات السياسية العراقية العميقة أو يعطي حكومتها شرعية، لا في الوطن ولا في العالم العربي خارج الوطن.
السبيل الوحيد لإعطاء العراق بداية جديدة هو أن يقوم الرئيس الأميركي الجديد بالإعلان بشكل واضح عن جدول زمني قصير لسحب جميع القوات الأجنبية. سيقوي ذلك الوطنيين من السُّنة الذين يواجهون القاعدة وسيُفشل ادعاء القاعدة بالحاجة إلى مقاتليها لتوفير المقاومة.
هناك حاجة في الوقت نفسه إلى مؤتمر ذي قاعدة واسعة، ربما تستضيفه جامعة الدول العربية والأمم المتحدة بشكل مشترك، لجمع عدد واسع متنوع من العراقيين، بمن فيهم الزعماء السياسيون والدينيون وقادة الصحوة والميليشيات السنية والشيعية الأخرى وممثلون عن المجتمع المدني، لإعداد حكومة تحالف وطني لإعادة الإعمار. الانتخابات في مرحلة كهذه لن تكون إلا خِلافية، فالدول الخارجة من حرب لا تستطيع تحملها.
لن ينظر العراقيون أسفل الهوة السحيقة ويوقفون انحدارهم إلى الحرب الأهلية حتى يدركوا أن عليهم أن يستعيدوا سيادتهم. ويشكل العنف السياسي بين السنة والشيعة ظاهرة جديدة في تاريخ العراق الحديث. وعلى رغم المرارة والحزن وسفك الدماء خلال السنوات الثلاث الماضية، يمكن عكس اتجاه سرطان الطائفية، ولكن حتى يحصل ذلك، يجب أن يصبح العراقيون سادة بيتهم مرة أخرى.
* كاتب عمود في «الغارديان» ومراسل أجنبي ومؤلف زار العراق في ثماني مهمات منذ غزوه العام 2003. تنشر دار Counterpoint كتابه الجديد «الهزيمة: لماذا فقدت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق»، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2149 - الخميس 24 يوليو 2008م الموافق 20 رجب 1429هـ