أربعة ملفات حملها معه المترشح للرئاسة الأميركية باراك أوباما في جولته على منطقة «الشرق الأوسط الكبير». الجولة بدأت في أفغانستان ومرت في العراق والأردن وانتهت في فلسطين المحتلة. والملفات اشتملت على قراءات لموضوع الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق ومسألة الاحتلال الإسرائيلي وفك الاشتباك في الأراضي الفلسطينية إضافة إلى معالجة إشكاليات البرنامج النووي الإيراني. كل الملفات يمكن وضعها تحت سقف «الأمن» والاستراتيجية الأميركية التي يجب اتباعها في السنوات الأربع المقبلة في ضوء التداعيات المحتملة التي ستسفر عنها نتائج الانتخابات في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
مسألة «الأمن» تحتل أولوية في برنامج الإدارة الأميركية الحالية أو التي ستتشكل في مطلع السنة الميلادية المقبلة. وهذه المسألة التي أعيد إنتاجها في سياق التحولات التي طرأت على الملفات الأربعة أخذت تحتل مكانة بارزة في سباق التنافس بين المترشحين الجمهوري والديمقراطي على موقع الرئاسة. فالأمن يتمتع بنكهة خاصة في السياسة الداخلية لكون المسألة تتصل باستراتيجية خارجية تعتمد على جمهور انتخابي يعيش حالات من التوتر النفسي ويمر بمرحلة من القلق على وظائفه وخصوصية حياته ونمطه الاستهلاكي.
الناخب الأميركي (دافع الضرائب) يحتاج إلى تطمينات من المترشحين قبل الإدلاء بصوته في صندوق الاقتراع. وهذه الحاجة الداخلية دفعت بالمترشحين المتنافسين إلى المزايدة في توزيع التطمينات لتلبية رغبات الجمهور المحلي وإشباع هواجسه من خلال إكثار الوعود التي ترضي مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال من جهة ولا تقلق الأنصار والحلفاء ومراكز القوى في منطقة حساسة كالشرق الأوسط من جهة أخرى. مسألة الأمن ستتحول في الأسابيع المقبلة إلى حقل رماية بين المترشحين في اعتبارها تلبي رغبات تعزز المصلحة القومية وتعطي ذاك الزخم المطلوب لتغطية متطلبات مؤسسات اقتصادية تعتمد عليها الدولة لتغذية موازنتها السنوية.
جولة أوباما الجغرافية على منطقة «الشرق الأوسط» لا يمكن عزلها عن تلك الدوافع المحلية التي تتشكل منها خريطة الجمهور الانتخابي ومزاج شارع متقلب في خياراته السياسية. والجولة التي أقدم عليها جاءت لتسديد فواتير في حسابات التنافس الانتخابي ولتقطع على الحزب الجمهوري خطته الإعلامية التي تركز على لون المترشح الديمقراطي وأصوله الإفريقية ووالده المسلم بهدف تخويف الشارع من رئيس مشكوك في أميركيته وهويته وولائه.
بسبب ضغط الحاجة الداخلية لجأ أوباما إلى سياسة تعديل خطابه الانتخابي وتدوير تلك الزوايا المتصلة بالأمن القومي والانتشار العسكري الأميركي المعطوف على تأكيد حرص واشنطن على ضمان «أمن إسرائيل» وحماية النفط من الإرهاب. والتعديل يتطلب عادة قراءة في برنامج الأولويات حتى تتجانس مع رغبات جمهور انتخابي يتخوف من نمو مخاطر على أمنه وخصوصيته ونمطه الاستهلاكي.
الجولة التي قام بها أوباما ليست جغرافية استطلاعية بقدر ما تطمح إلى توجيه رسالة سياسية إلى الداخل تعيد تأكيد أولويات اعتمدتها الإدارات الأميركية تقليديا في تعاملها مع ملفات «الشرق الأوسط». وبما أن الملفات تضخمت في عهد جورج بوش الابن وتوسعت نتيجة سياسة التقويض التي اعتمدها في استراتيجيته الهجومية بدأ أوباما من أفغانستان لكونها الضحية الأولى وبعدها العراق بصفته الضحية الثانية وانتهاء بفلسطين باعتبارها ذاك المكان الذي لا غنى عنه لتأكيد الثوابت والتذكير بتقاليد تتوارثها الإدارات من دون تحفظ.
ارتباط الملفات
الملفات الأربعة على رغم تباعدها الجغرافي موحدة سياسيا تحت سقف الأمن القومي الأميركي. وهي في ترتيبها الانتخابي العام يحتل الملف العراقي فيها أولوية في برنامج التنافس بين المترشحين. فهذا الموضوع الذي شكل مدار تجاذب في السنتين الماضيتين أخذ يستقر على فكرة حماية جنود الاحتلال وتنظيم خطة زمنية للانسحاب بشرط ألا تتعرض المصالح الأميركية للانهيار. وتحت هذا العنوان بدأ أوباما تدوير الزوايا وضبط مشروع الانسحاب باتفاق أمني يضمن للولايات المتحدة موقعها في دائرة حيوية جغرافيا ونفطيا. والتفاهم الشفهي الذي توصل إليه المترشح مع رئيس الحكومة التابعة قضى بوضع جدول زمني ينتهي في العام 2010 وهي المدة التي تعتقد بغداد بأنها كافية لترتيب هيئة السلطة بعد الانسحاب الأميركي المفترض حصوله في السنتين المقبلتين. إلا أن التفاهم بشأن الوجود الأميركي في العراق لا يمكن عزله عن إيران وموقعها الإقليمي ودورها في بلاد الرافدين والخلاف على هوية برنامجها النووي. وبسبب الارتباط بين الحلقتين اكتشف أوباما صعوبة التوفيق بين خطة مرنة تضمن أمن الاحتلال في العراق ومشروع نووي يرى فيه خطورة على «أمن إسرائيل». وهذا التعارض بين أمن الاحتلال وأمن «إسرائيل» يشكل ثغرة في خطاب أوباما الانتخابي قياسا بذاك الخطاب الهجومي والمتماسك نسبيا الذي يطلقه منافسه جون ماكين في جولاته. فالمنافس يربط بقوة بين أمن الاحتلال وأمن «إسرائيل» ويرى أن التساهل في الملف العراقي يؤدي إلى تنازلات في الملف النووي الإيراني المعطوف على مخاوف تهدد أمن الحليف الاستراتيجي الثابت للولايات المتحدة.
أولوية الملف العراقي في برنامج التنافس الانتخابي أخذت تتزعزع في الشهور الماضية بعد أن شهدت ساحة بلاد الرافدين بعض الهدوء النسبي مقابل ارتفاع وتيرة الهجمات على القواعد الأميركية في أفغانستان. والهدوء الذي ارتفعت نسبيا درجاته في العراق جاء في ضوء تقدم الاتصالات «الفنية» و «التقنية» بين واشنطن وطهران.
هذه التحولات «السرية» والعلنية أربكت خطاب أوباما الانتخابي ودفعته إلى اتخاذ خطوات ناقصة ومتسرعة في التعامل مع أولويات السياسة الأميركية في المرحلة المقبلة. فالهدوء النسبي في جبهة العراق أعطى حيوية لخطاب ماكين المضاد الذي يصر على أن الاحتلال باقٍ مادامت الولايات المتحدة بحاجة إليه. وهذا يعني أن الوجود العسكري لن يتكيف وفق الحاجات الأمنية وإنما بحسب ما تقتضيه المصالح ومتطلباتها التي تمتد من الخليج إلى أفغانستان. وعلى أساس هذا المتغير الأمني يتجه ماكين إلى تضمين خطابه الانتخابي كل الخطط التي تتوصل «البنتاغون» إلى اتباعها لتحسين المواقع الأميركية وتحصينها من المخاطر سواء تلك المتصلة بالبرنامج النووي الإيراني أو المتعلقة بموضوع نقل قوات أميركية إلى أفغانستان لوقف تمدد نفوذ طالبان في المناطق والقبائل.
ارتباط الملفات الثلاثة (أفغانستان وإيران والعراق) ليس بعيدا في تضاريسه السياسية عن أساليب التعامل مع الملف الرابع. فالأخير هو الثابت لأنه يتصل مباشرة بأمن «إسرائيل» وموقعها الجغرافي ورمزيتها الأيديولوجية. وهذا الثابت يشكل زاوية في الاستراتيجية الأميركية باعتبار أن سياسة إدارة بوش تركزت في السنوات الثماني الماضية على نقطتين مركزيتين: حماية النفط وضمان أمن «إسرائيل».
الملفات الأمنية الأربعة محكومة في النهاية بالمصلحة الأميركية وحاجات مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال إلى التمدد الاستراتيجي أو على الأقل المحافظة على المواقع الحالية ومنعها من التقلص أو التراجع أو التآكل. وبسبب ارتباط الأمن بالمصلحة يواجه خطاب أوباما الانتخابي مشكلة في توضيح خطوطه السياسية حتى يستطيع تسويقه للناخب الأميركي في فترة وجيزة تسبق يوم الاقتراع. فالمترشح الديمقراطي يضغط باتجاه تقليص مدة الاحتلال في العراق وأفغانستان في وقت يبالغ في معارضة برنامج إيران النووي وتأييد «إسرائيل» وضمان أمنها.
أمن «إسرائيل» بدوره موضوع متشابك الحلقات ومفتوح على الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية وربما الأردنية في المرحلة اللاحقة. ومعالجة هذا الملف تقتضي قراءة النظرة الإسرائيلية وتعاملها مع المسارات الثلاثة. تقليديا تميل الحكومات الإسرائيلية إلى تغليب التفاوض على الجانب السوري في اعتباره أقل كلفة من المسار الفلسطيني والدولة «القابلة للحياة». وتفضيل تل أبيب مسار التفاوض مع دمشق على غيرها من العواصم العربية يرتبط بإمكانات التفاهم على تمديد عقد الهدنة في الجولان مقابل تعويض الخسائر من خلال التفاهم على المسار اللبناني والاعتراف بدورها ونفوذها في بلاد الأرز. وهذا الاحتمال يمكن التوصل إليه بين الطرفين في حال انتهت المفاوضات غير المباشرة برعاية تركيا إلى تفاهمات إقليمية.
أوباما يكتفي بالربط بين البرنامج النووي وأمن «إسرائيل» ويعزل الملفين عن أفغانستان والعراق بينما ماكين يربط الملفات الأربعة في سياق استراتيجي مشترك. وهذا الاختلاف في المنهجين يشكل نقطة قوة في خطاب ماكين الانتخابي الأكثر التصاقا بالمؤسسات بينما يؤسس ثغرة سياسية في خطاب أوباما الذي تعرض للاهتزاز بسبب تراجع العنف نسبيا في العراق وتطور اللقاءات الإيرانية - الأميركية والمفاوضات السورية - الإسرائيلية واحتمال توصلهما إلى تفاهمات غير متوقعة قبل موعد الانتخابات في نوفمبر المقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2148 - الأربعاء 23 يوليو 2008م الموافق 19 رجب 1429هـ