إن المكاسب الآنية التي يتم الحصول عليها بواسطة النمو الاقتصادي المتسارع يمكن أن تؤدي إلى خسارات اقتصادية واجتماعية وبيئية وصحية طويلة المدى إذا لم يتم وضع التدابير المطلوبة لمنع ذلك.
لو بحثنا عن تعريف لكلمة «التنمية» في القواميس المتاحة (قاموس راندوم هاوس مثلا)، سنجد أنه ببساطة يعني «عملية التقدم»، ومرادفاتها: التوسع، النمو، التطور، النضج، ومضاداتها: التدهور والانحلال. وبالطبع، هذا التعريف العام لمفردة التنمية لا يعطي المفهوم المطلوب، فقد تختلف الآراء في الآلية الأفضل لعملية التقدم، فقد يراه البعض في النمو الاقتصادي والبعض الآخر في نمو رأس المال البشري، أو في صون واستدامة الأصول البيئية والطبيعية، وغيرها من الآليات. إلا أن مفهوم التنمية أخذ منحى مختلفا كليا في العام 1987 مع نشر ومناقشة تقرير «برنتلاند» بعنوان «مستقبلنا المشترك» أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي طرح مفهوم «التنمية المستدامة»، والذي يدعو إلى إنشاء التوازن بين التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والمحافظة على البيئة، ويحث على النظر إلى استخدام الموارد الطبيعية بعقلانية لخدمة احتياجات الجيل الحالي من دون التضحية باحتياجات الأجيال القادمة (تقرير لجنة برنتلاند: مستقبلنا المشترك، 1987، مطبعة اكسفورد).
إلا أن هذا المفهوم (أي التنمية المستدامة) وعلى الرغم من بساطته ليس من السهل ترجمته عمليا على أرض الواقع، ويختلف من مجتمع إلى آخر، ويتطلب تحديد النموذج أو مناطق التركيز في نموذج التنمية المستدامة إجراء العديد من الدراسات والبحوث على التجارب السابقة للدول، والتعرف إلى القوى المحركة في مجتمعاتنا ومعرفة اتجاهات التطور الماضية لها وتأثيراتها المختلفة على مجتمعاتنا، وإجراء السيناريوهات المستقبلية النوعية والكمية لنماذج التنمية المختلفة وفحص التأثيرات التي ستنتج عن كل نموذج تنموي اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا وسياسيا، ومن ثم تحديد النموذج المطلوب بأقصى المنافع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية، ووضع التدابير المطلوبة لتجنب أو تخفيف الآثار غير المرغوبة. ويتطلب هذا حركة بحثية نشطة ومشاركة أعداد كبيرة من المختصين في مختلف مواقع المجتمع للإدلاء بوجهات نظرهم للوصول إلى نموذج التنمية الأفضل، أو على الأقل تقليل تأثيرات النموذج الذي تم تبنيه.
في أواخر الشهر الماضي (24 - 28 يونيو/ حزيران 2008) عقد الاتحاد الأوروبي لمعاهد البحث والتدريب المتخصصة في التنمية (EADI) مؤتمره العام الثاني عشر، الذي يعقد كل ثلاث سنوات، في معهد جنيف للدراسات العليا بسويسرا، تحت شعار «الحاكمية العالمية والتنمية المستدامة: الحاجة إلى السياسات المترابطة والشراكات الجديدة»، ونوقشت في المؤتمر العديد من قضايا التنمية من جوانبها الثلاث المتمثلة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وتطرق المؤتمر الذي عقد على هيئة محاضرات للمشاركين والعامة وورش عمل ودوائر نقاش مستديرة وفرق عمل، إلى العديد من القضايا المعاصرة المتعلقة بالتنمية في أوروبا والعالم. وشارك في المؤتمر أكثر من 400 من المنتمين الى المعاهد والجامعات الأعضاء في الاتحاد المتخصصة ببحوث التنمية أساتذة وطلابا، بالإضافة إلى عدد كبير من المدعوين من مناطق العالم المختلفة للإدلاء بآرائهم والمشاركة في جلسات وأعمال المؤتمر، وتم تمويل حضورهم من قبل الحكومات والهيئات الأوروبية العاملة في مجال التنمية.
ولقد ناقش المؤتمر بشكل علمي وأكاديمي من خلال فعالياته المختلفة العديد من القضايا التي تؤرق الدول الأوروبية مثل تناقص عدد السكان في هذه الدول وما يقابله من هجرة من دول العالم المختلفة وتأثيرات ذلك اقتصاديا واجتماعيا على الدول الأوروبية وكذلك تأثيرات هذه الهجرة على دول العالم الثالث التي تخسر العديد من كفاءاتها بما يسمى نزيف العقول. وفي ورش العمل نوقشت العلاقة بين العديد من الثنائيات مثل الحاكمية والمصادر الطبيعية/ البيئة، التنمية والبيئة، والنوع الاجتماعي والتنمية، والمشاركة والتنمية، مجتمع المعرفة والتنمية، الفقر والتنمية، وغيرها من الموضوعات العامة؛ كما نوقشت العديد من القضايا الخاصة مثل العلاقة بين أوروبا وآسيا، وأوروبا وأميركا اللاتينية، وأوروبا وإفريقيا، وعقدت، وللمرة الأولى، في مؤتمر هذا العام جلسة خاصة عن الشرق الأوسط طرحت فيها الجوانب الاقتصادية والسياسية والبيئية لهذه المنطقة. وفي حلقات النقاش المستديرة نوقشت قضايا مثل العدالة والاقتصاد والبيئة، وسياسات الدعم وكفاءتها، وتجارة الكربون وتأثيراتها، والتغير المناخي وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتوقعة، وغيرها من الموضوعات. أما على مستوى المعاهد والجامعات فلقد عقدت العديد من الجلسات التي ضمت ممثلي هذه المؤسسات لمناقشة التوجهات التدريبية والبحثية المطلوبة للتكيف وتلبية احتياجات المرحلة القادمة ووضع خطة استراتيجية وبرنامج عمل للتعاون والتكامل بين هذه المؤسسات التعليمية والبحثية في مجالات التدريب والبحث العلمي وتبادل الأساتذة والطلبة وزيادة التشبيك بينها.
إن ما يدعو إلى التطرق والكتابة في هذا الشأن هو الفارق الشاسع بين اهتمام دول الخليج وهذه الدول المتقدمة في مجال التنمية (مع تساوي الأهمية للطرفين بالشأن التنموي)، فبرغم التطورات المتسارعة التي تحدث في دول مجلس التعاون والمتغيرات الخطرة العديدة التي تمر بها، وبرغم الاهتمام والتربص العالمي المستمر لهذه المنطقة بسبب مخزونها الاستراتيجي من النفط، وبرغم من الإمكانات المادية الهائلة التي تمتلكها هذه الدول، وبرغم من أنه لا يخلو يوم ولا تذكر كلمة «التنمية المستدامة» في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في هذه الدول، إلا أنه وللأسف فإن المجتمعات الخليجية لم تُعرّف حتى الآن ماذا تعني بالتنمية المستدامة، وتناقشها بشكل مستفيض لتحديد أبعادها المختلفة في المجتمع، ولم تحدد ما يجب عمله لتحقيقها ولتقليل أثاراها الضارة عليها.
في الفعاليات والمحافل الإقليمية والدولية، غالبا ما يستهل المتحدثون محاضراتهم عند طرح ومناقشة أي من الموضوعات ذات العلاقة بدول المجلس من أن هذه الدول تتسم بالجفاف بسبب ندرة الأمطار وتمتلك نحو 45 في المئة من مخزون النفط العالمي كأحد المعطيات الطبيعية فيها؛ في ضوء الوضع الحالي، يُخشى أن يضاف إلى هذه السمات جفاف وندرة التفكير في هذه الدول!
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 2147 - الثلثاء 22 يوليو 2008م الموافق 18 رجب 1429هـ