يدعو أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات عبدالخالق عبدالله في مقال بعنوان «خلل تنموي أم خلل سكاني؟» في تعليقه على قرار مجلس الوزراء الإماراتي بإنشاء الهيئة الوطنية للتركيبة السكانية التي وعدت بتنفيذ أكثر من 60 مبادرة تعيد التوازن إلى الخلل الذي تعاني منه الإمارات، إلى إعادة النظر في النموذج التنموي الحالي المتمثل في نموذج «النمو من أجل النمو» وليس النمو من أجل الإنسان والوطن والمستقبل، الذي أفرز هذه المشكلة بالأساس.
إن الواقع الإماراتي لا يختلف كثيرا عن غالبية دول مجلس التعاون الأخرى، فبعض دول المجلس أصبح المواطنون فيها أقلية والبعض الآخر في الطريق إلى ذلك، وإذا لم تكن هي فعلا في الوضع نفسه أو تتسابق مع الإمارات في هذا المجال، فإنها حتما تسير بتسارع في الاتجاه ذاته، وعلى رغم المشكلات الاجتماعية والسياسية والبيئية الناتجة عن الكثافة السكانية وخلل التركيبة السكانية، بل كذلك الاقتصادية المتمثلة في غلاء المعيشة وارتفاع مستوى الأسعار، التي بدأت تظهر بشكل جلي في الإمارات جراء اتباع هذا النموذج التنموي، فإن المعطيات الحالية في دول المجلس تشير إلى أن هذه الدول مازالت ترى في هذا النموذج أنه الأفضل لتحقيق «التنمية» والتقدم لها.
حاليا يكاد لا يخلو أي تصريح للمسئولين الحكوميين الواقعين في أعلى سلطة للقرار في دول المجلس عن الرؤية المستقبلية لدولهم من أنها السعي إلى «تحقيق أعلى نمو اقتصادي». وهي وجهة نظر مبررة ومفهومة حيث ينظر إلى النمو الاقتصادي على أنه العربة التي ستنقل دول المجلس إلى مصاف الدول المتقدمة، وأن جذب الاستثمارات الأجنبية هو العصا السحرية التي ستؤدي إلى تقليل البطالة من خلال خلق فرص عمل للمواطنين وزيادة دخل الدولة والمواطن وتحقيق الرفاه... وغيرها من المبررات التي تطرح، وإن كان هذا قد أثبت فشله في العديد من الأحيان، فمع جلب الاستثمارات زادت أعداد العمالة الأجنبية على حساب العمالة الوطنية، وهذا واضح في الإمارات وقطر، وكذلك هنا في البحرين، حيث خلق القطاع الخاص في العام 2007 نحو 21700 فرصة عمل كان نصيب البحرينيين منها 11 في المئة فقط والباقي كانت عمالة أجنبية، كما انخفضت نسبة العمالة الوطنية في البحرين من30 في المئة إلى 20 في المئة في الفترة 2003 - 2006 (بحسب تقرير المؤشرات الاقتصادية، مصرف البحرين المركزي)، وتعمل الحكومة البحرينية لتأهيل المواطنين للدخول في سوق العمل ورفع كلفة العمالة الأجنبية لتعديل هذا الوضع.
على أي حال، تظل وجهة النظر «التنموية» هذه مبررة ومنطقية نوعا ما، إذا ما تم اتخاذ الإجراءات التي تحقق المطلوب، وقد يكون النمو الاقتصادي بالفعل هو الحل! ولكن هل تمت دراسة الآثار المتوقعة من هذا النمو الاقتصادي على الجوانب الاجتماعية والبيئية وحتى السياسية والأمنية في دول المجلس، وهل تم اتخاذ التدابير والخطط المطلوبة لتلافي هذه الآثار أو تخفيف التأثيرات السلبية لها. والتساؤل الآخر الذي يطرح نفسه أمام هذا الواقع: هل قامت دول المجلس فعلا بتعريف معنى التنمية التي تنشدها بشكل علمي ودرست بتروٍ آثار وتبعات ومنافع/ أضرار كل نموذج من النماذج التنموية المتاحة والتجارب العالمية في هذا المجال وتناسبها مع الخصوصية الخليجية. بمعنى آخر، هل تعي هذه الدول في أي اتجاه سيأخذها نموذج «تحقيق أعلى نمو اقتصادي»؟ وهل أخذت في الاعتبار مساوئه وأضراره الحالية والمستقبلية وعملت على تقليل أو تجنب تأثيراته؟
إن تحقيق أقصى نمو اقتصادي في معناه الصرف، يعني ترك الأمور لمنطق قوى السوق وأن تكون فيه التنمية خاضعة لقوى وآليات السوق وترك المشكلات الاجتماعية والضغوط على البيئة لمنطق الإصلاح الذاتي لقوى السوق وتنافسها، ويعني أن يحتل القطاع الخاص دورا رئيسا في الاستثمار وتحريك عجلة الاقتصاد، وإنشاء تحالف وثيق بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص على حساب المجتمع المدني، وتخلي الدولة عن دورها في تزويد الخدمة والتحول إلى منظم ومراقب لها، ويعني أيضا أن يتعرض المشرِّعون والتنفيذيون الحكوميون لضغوط متزايدة لتقليل تدخلهم في سير آليات السوق الحرة وتقييد المشاريع ذات الآثار السلبية على المجتمع، وتخفيف القيود البيئية لجلب الاستثمارات الأجنبية وجذب القطاع الخاص لرفع الأعباء المالية عن كاهل الحكومة واسترجاع تكاليف الخدمات.
وعلى رغم أن ذلك في الأغلب يؤدي إلى زيادة كفاءة الخدمات (هناك العديد من التجارب العالمية التي بينت العكس وخصوصا تحت أوضاع الاحتكار وعدم وجود إطار تشريعي ملائم)، فإنه كذلك سيؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه الخدمات، وقد يؤدي إلى إلغاء أنواع الدعم وإلى تأثر شرائح المجتمع الفقيرة وذات الدخل المحدود.
ومن أهم مكونات نموذج «أقصى نمو اقتصادي» ارتفاع معدلات النمو السكاني الناتجة عن الحاجة إلى جلب العمالة الأجنبية لتلبية متطلبات النمو الاقتصادي، وهو القوة الدافعة الرئيسية من بين القوى المحركة الأخرى في المجتمعات التي تمثل الضغط الأكبر على الدولة، حيث تؤدي في كثير من الأحيان إلى زيادة أعداد السكان بمعدلات متسارعة قد تفوق معدلات القدرة على توفير البنية التحتية والمرافق والخدمات، ما يؤدي إلى إرهاقها وتدني نوعيتها. ويمكن للمرء أن يرى هذه التأثيرات بوضوح في العديد من دول المجلس التي تعاني من الطفرة السكانية الناتجة عن هذا النموذج والمتمثلة في عمليات إعادة تصميم البنى التحتية مثل الشوارع والصرف الصحي وغيرها.
ومن أبرز الأمثلة على نتائج هذا النموذج ظاهرة التوسع الحضري وتكون المدن الضخمة Mega cities ذات الكثافة السكانية العالية وذات الكثير من المشكلات الملحة والتأثيرات السلبية على صحة الإنسان والبيئة، المتمثلة في تلوث الهواء، والاختناقات المرورية والضوضاء، والإنتاج المركز للمخلفات البلدية الصلبة والسائلة في منطقة محدودة وصعوبة إدارتها، وتحويل الأراضي الزراعية المحدودة إلى مناطق سكنية، وارتفاع معدل ردم السواحل والبحر للمشاريع الإسكانية والترفيهية. وبسبب سرعة معدلات النمو الحضري تعجز البنية التحتية وإنشاء المرافق والخدمات الحضرية من تلبية متطلباتها مؤدية إلى مشاكل بيئية عديدة، مثل عدم توافر شبكات الصرف الصحي لمناطق عديدة، ويمكن أن يصحب ذلك انتشار الأمراض في تلك المناطق.
إن التأثيرات التي يمكن أن تنتج عن هذا النموذج على البيئة والموارد الطبيعية لا تعد ولا تحصى وخصوصا أن البيئة والأنظمة الحيوية في دول المجلس تتسم بالهشاشة ومن السهل تدميرها، ومنها استنزاف ونضوب وتملح المياه الجوفية المحدودة، وتصحر الأراضي الزراعية القليلة المنتجة، واستنزاف المراعي، وتدني نوعية المياه المزودة للسكان، وتلوث الهواء، وتلوث البيئة البحرية وتدهور أنظمتها الحيوية وتدمير موائلها الطبيعية وتناقص الأجناس وخسارة التنوع البيولوجي فيها. وفي الحالة الأخيرة، يمكن أن تزيد التأثيرات الصحية على الإنسان بسبب تلوث البيئة البحرية بواسطة زيادة حمولات التلوث الناتجة عن الأنشطة الصناعية والبلدية، أضف إلى ذلك استنزاف المخزون السمكي بسبب زيادة الطلب على الغذاء، ما قد يؤدي إلى خسارة المخزون السمكي وتدهور صناعة صيد الأسماك.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 2146 - الإثنين 21 يوليو 2008م الموافق 17 رجب 1429هـ