بدأت إيران تستعد نفسيا وثقافيا للدخول في طور جديد من العلاقات الدولية بعد انكفاء دام نحو ثلاثة عقود من التأزم. فاللقاءات «الفنية» و«التقنية» التي بدأت قبل ثلاث سنوات في العواصم والمدن الأوروبية والإقليمية (بغداد وشرم الشيخ) أخذت تعطي ثمارها وتكشف عن تفاهمات سيكون لها انعكاساتها في حال توصلت إلى صيغ (اتفاقات) توضح طبيعة الدور والوظيفة في المنطقة.
إيران بحاجة إلى ضمان موقعها الجيوبولتيكي في دائرة استراتيجية تتمتع بأهمية جغرافية (خطوط إمدادات ومواصلات) وبمكانة اقتصادية (ثروة نفطية ومعدنية) لا غنى عنها للمحافظة على استقرار الصناعات الدولية. والقوى الكبرى صاحبة المصلحة في ضبط التوازن الدولي تحتاج أيضا إلى إيران لضمان استقرار المحيط الإقليمي وموقعة الاستراتيجي في منطقة اوراسيا (أوروبا وآسيا) وعلى خط الحرير (طرقات التجارة القديمة) الذي يمتد من الصين شرقا إلى البحر المتوسط غربا.
بحكم الحاجة المتبادلة تميزت طهران بذاك الموقع الخاص في معادلة التوازن. فهناك بوابة أفغانستان في الشرق التي امتازت في العقود الثلاثة الماضية بأهمية استراتيجية حين تحولت إلى ساحة مفتوحة ومكشوفة أمام المواجهات الدولية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وهذه البوابة لاتزال محافظة على أهميتها السياسية على رغم انهيار القوة المنافسة لواشنطن، لكون أفغانستان تشكل ضرورة أمنية للإشراف على خط يربط أو يفصل بين الهند والصين وباكستان ومنطقة الخليج العربية.
باكستان أيضا شكلت البوابة الشرقية الثانية لطهران. فهذه المنطقة تكثر فيها التضاريس الجغرافية - القبلية وهي تعتبر نافذة مضطربة تقع على حدود إيران وتمنع تمدد نفوذها إلى بحر العرب وتحد من تأثيرها السياسي على مساحة تتكاثر فيها خطوط التهريب.
طهران شرقا كانت تقليديا تتعرض دائما لاحتكاكات حدودية تثير المخاوف الأمنية بسبب تداخل القبيلة بالطائفة بالمذهب إلى عوامل أخرى متصلة بمنافذ التهريب إلى الداخل الإيراني ومنه إلى تركيا وأوروبا. ولهذه العوامل المتداخلة شكلت بوابة الشرق (أفغانستان وباكستان) نقاط توتر دائمة على الحدود وأورثت طهران مخاوف ناتجة عن ضعف جيوبولتيكي غير قادر على ضبط حركة التنقل القبلي (الاقوامي والمذهبي) على خطوط التماس.
طهران شمالا تعرضت في العقدين الأخيرين إلى سلسلة اهتزازات بسبب تلك الاضطرابات السياسية التي نجمت عن سقوط الاتحاد السوفياتي. فالانهيار السريع أدى إلى انفراط العقد وتبعثر الدولة المركزية إلى جمهوريات مستقلة تحيط بإيران من جهة بحر قزوين الذي يحتوي على ثروة هائلة من احتياطات النفط. وبسبب قيمة قزوين الاقتصادية تنافست الشركات الأجنبية (الأوروبية والأميركية) على المحاصصة وأخذت الدول الكبرى التي تحتاج إلى مورد ثابت لإنتاج الطاقة بالتزاحم على توقيع عقود تسمح بالتنقيب والنقل والتكرير وغيرها. وأدى التصادم المصلحي بين الشركات والدول إلى توتير العلاقات الجوارية بين الجمهوريات الواقعة على شاطئ قزوين ما اضعف طهران وساهم في تقليص حصتها من الثروة. فقبل انهيار الاتحاد السوفياتي تقاسمت طهران وموسكو الحصة إلى نصفين وبعد سقوط الدولة المركزية وتناثرها إلى جمهوريات جديدة تراجعت حصة إيران إلى أقل من 20 في المئة وتوزعت الدول المجاورة مع روسيا النسب المتبقية. ولهذه العوامل المتداخلة التي تجمع الدين باللغة بالمذهب بالقومية والقبيلة ارتفع الضغط على إيران نتيجة ظهور قوى عظمى تتحرك اقتصاديا (شركات نفط) وامنيا (قواعد عسكرية) على مداخل بوابتها الشمالية.
الغرب والجنوب
طهران غربا ليست أفضل حالا. فهذه البوابة (تركيا والعراق) شكلت نقطة انطلاق للعبور داخل أراضيها في العام 1980 وأدى الأمر إلى انزلاقها إلى حرب مدمرة دامت ثماني سنوات ما اضطرها إلى إعادة ترتيب أولوياتها وتقديم الصناعات العسكرية على غيرها من قطاعات إنتاجية. البوابة الغربية ساهمت في رفع درجات القلق في الداخل الإيراني ولعبت دورها في اضطراب علاقات السلطة في هرم الدولة بسبب تداخل الجغرافيا بالتاريخ والصراع على الحدود وما يحمله من تنوع في تضاريسه الأقوامية والمذهبية والقبلية. وهذا الاضطراب الذي انفجر فجأة على مداخل البوابة الغربية رفع من منسوب القلق ودفع القيادة السياسية إلى إتباع منهج العسكرة لتطوير قواعد اقتصاد محكوم بالحاجة التي فرضتها سلسلة حروب أدت في النهاية إلى تعديل قواعد اللعبة الدولية وتغيير أنظمة وإسقاط معادلة وتأسيس «نموذج» في العراق اتسم بالفوضى والعبث في العلاقات الأهلية والموروثات الدينية.
بوابة طهران الغربية تعتبر الأضعف في توازن الدولة حتى لو استفادت نسبيا من الاحتلال الأميركي وتحطيم العراق وبعثرته إلى دويلات مناطق وطوائف ومذاهب وقبائل وأقوام. فالمتغير الجيوبولتيكي كان شديد العنف بسبب عنصر المباغتة الدولية الذي كسر موازين القوى المحلية وعزل منطقة جغرافية كانت محاصرة لمدة أكثر من عقد تحولت فجأة إلى قاعدة عسكرية للولايات المتحدة. وساهم هذا المتغير السريع في تعزيز قلق القيادة السياسية في إيران حين تخوفت من احتمال انتقال ذاك المتحول الدولي إليها من خلال اختراق الحدود وزعزعة استقرارها من الداخل.
البوابة الإيرانية الغربية المفتوحة شمالا على تركيا ودويلة كردية واقتتال حدودي يمتد إلى أرمينيا وأذربيجان هي أيضا مفتوحة جنوبا على دول الخليج العربية وتلك المساحة الجغرافية التي تحتوي أضخم مخزون من الغاز واحتياطات هائلة من النفط.
بوابة الجنوب تعتبر الآن هي الزاوية الأهم في العمارة الإيرانية في اعتبار أنها تشكل نقطة توازن في استقرار المنطقة وموقعها المميز في التأثير على الاقتصاد العالمي. وهذا الأمر أدى إلى اضطراب القيادة السياسية وجعلها في موقع الطرف المستهدف الذي يتخوف دائما من احتمال تكرار «النموذج» العراقي. وبسبب خطورة الخليج وموقعه الدولي ومخاوف شركات النفط والصناعات من تراجع الإنتاج أو توقف خطوط الإمداد عن العمل أو إقفال المعابر والمداخل والمخارج شكلت هذه الدائرة في السنوات الأخيرة نقطة اختبار لموازين القوى ومدى قدرة المراكز الإقليمية على كسر الحماية الدولية لمجموعة مصالح ممتدة من الصين إلى الولايات المتحدة.
القيادة السياسية في إيران تتعامل مع المتغيرات التي حصلت شرقا (إسقاط حكم طالبان في نهاية 2001) وغربا (إسقاط حكم صدام في مطلع 2003) بصفتها قوة مستهدفة وجرى تطويقها عسكريا ويمكن أن يتحول العزل الجيوبولتيكي إلى حصار اقتصادي دولي يؤدي إلى كسرها من الداخل أو استخدام بوابات الحدود للعبور.
صحيح أن طهران استفادت نسبيا من إسقاط طالبان في أفغانستان وصدام في العراق فحسّنت شروط تفاوضها مع المراكز الدولية إلا أنها استراتيجيا تعرضت لمتغيرات جيوبولتيكية أخذت تهدد عسكريا أمنها الحدودي وتزعزع توازنها الأهلي. وربما لهذه الأسباب نشهد تلك التوترات الدائمة ونسمع تصريحات عنيفة وتهديدات عشوائية بالحرق والغلق مرفقة بمناورات وتجارب وتدريبات واستعدادات.
هذا القلق الإيراني ناتج أصلا عن سياسة التطويق التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ العام 2001 لإقفال معابر البوابات وصولا إلى النجاح في إصدار سلسلة قرارات دولية تنص فقراتها بوضوح على احتمال فرض الحصار الاقتصادي والمقاطعة من مختلف الجهات البرية والبحرية. ومخاوف القيادة السياسية من الحصار دفعتها أيضا إلى اتخاذ خطوات براغماتية وفتح خطوط مع الغرب وتقديم تسهيلات في الملفين الأفغاني والعراقي لتخفيف الضغط والظهور بموقع القادر عسكريا من جهة والقابل للتفاوض السياسي من جهة أخرى.
التشنج وصل الآن إلى خطوطه النهائية تقريبا وبات على القيادة السياسية أن تختار بعد أسبوعين بين التعاون أو المواجهة كما أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ونائب وزير الخارجية الروسي والممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
أمام القيادة السياسية الإيرانية فترة وجيزة للاختيار بين الدخول إلى «نادي الصداقة» وطور جديد من العلاقات الدولية أو تحمل عقوبات ستفرض عليها بتشديد الحصار من البوابات الأربع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2146 - الإثنين 21 يوليو 2008م الموافق 17 رجب 1429هـ