مئة يوم «ثقيل» تنتظر حكومة فؤاد السنيورة الثانية. فهذه المدة تعتبر «عينة زمنية» تعتمدها الصحافة الأوروبية للحكم على مدى نجاح التجربة أو فشلها. فالعينة هي فرصة زمنية تحتاجها الحكومة عادة لتأكيد قدرتها على التعامل مع تحديات تواجهها خلال فترة انطلاقتها وإطلالتها على الناس. وهذا القياس الزمني يشكل وحدة يمكن البناء عليها لمعرفة التوجهات ورصدها عمليا على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والإدارية مضافة إليها تلك المهمات الخاصة المتصلة بخصوصية التركيبة اللبنانية ومحيطها الجغرافي وما يطرأ عليها من مستجدات ساخنة وباردة في الفضاءات الإقليمية والدولية.
العينة الزمنية هي امتحان للتجربة ووحدة قياس لاختبار قدرة الدولة على استيعاب متغيرات أخذت تظهر على شاشات اللقاءات والتحولات الجارية على مختلف المستويات في دول الجوار القريبة والبعيدة. كذلك تشكل بيئة رسمية للتعرف على جدية التلاقي بين «8 و14 آذار» وكيف يمكن إدارته لإنتاج قرارات تعود بالفائدة على المجموعات الأهلية التي يتألف منها الكيان.
مهمات كثيرة تنتظر الحكومة الأولى في عهد الرئيس التوافقي ميشال سليمان. وهذه المهمات تحتاج فعلا إلى رؤية شاملة وعقلية تسووية تستطيع تجاوز عقبات وأفخاخ تعترض الكثير من التوجهات التي يمكن أن تتخذها حكومة وطنية مشتركة تأسست على فرضية «الثلث المعطل» أو الضامن. فهل يعطل الثلث الحكومة أو يضمن لها التماسك ويعطيها قوة الاستمرار ويضيف اليها ذاك الزخم المطلوب لتذليل حواجز أهلية وإقليمية ارتسمت معالمها في بلاد الأرز خلال السنوات الأربع الماضية؟ هذا السؤال تتوقف عليه الكثير من الأجوبة. فإذا كانت الرياح الإقليمية أخذت تتجه من السخونة إلى البرودة فإن إمكانات توفير النجاح للحكومة تصبح من الأمور المحتملة. أما إذا كانت الرياح ستشهد معاكسات وفجوات هوائية فيرجح أن تواجه الحكومة مطبات واهتزازات قد تودي بها وتعطل إمكانات استمرارها في الطيران.
الثلث المعطل (الضامن) يشكل ذاك المعيار الذي يمكن مراقبته ورصد أفعاله وردود أفعاله لفحص المزاج الإقليمي واختبار مدى تقدمه أو تراجعه على خطوط الاتصال والمواصلات بين طهران وواشنطن مرورا ببغداد وبين دمشق وتل أبيب مرورا بباريس. فالثلث الذي دخل الحكومة الأولى في العهد الجديد يمثل في امتداداته السياسية المحلية والإقليمية قوة أكبر من حجمه التمثيلي النسبي لكون القوى تعكس في خريطتها الأهلية مجموعة توازنات تتعدى جغرافية لبنان. وبهذا المعنى يمكن التعامل مع «الثلث» بصفته حصة سياسية ترمز إلى مواقع ومراكز قوى تطمح خلال الفترة المقبلة إلى تطوير علاقاتها الدولية وتحسين شروط التفاوض في الملفات المفتوحة على طاولات النقاش العلني والحوار السري في أكثر من عاصمة إقليمية وأوروبية.
أيام طويلة وثقيلة
كيف ستتعامل الحكومة اللبنانية مع «الثلث»؟ هذا السؤال بدوره يحتمل أجوبة مختلفة. والأجوبة التي ستظهر في القريب العاجل ستكشف عن مساومات تتناول أكثر من ملف بعضها يتصل بالسيادة وبعضها بالدفاع وبعضها بالمحيط الجواري والتوازنات الإقليمية. وكل هذه النقاط الباردة والساخنة تنتظر الآن عملية تنقية وصهر وتعدين قبل صوغ فقرات البيان الوزاري الذي يرجح أن تتوصل إليه الحكومة قبل دفعه إلى مجلس النواب للنقاش والمصادقة عليه.
«البيان الوزاري» ليس المشكلة وإنما تلك الآليات التي يراد ابتكارها لوضع فقرات البيان موضع التنفيذ. وهذا أيضا يتطلب توافقات محلية معطوفة على تسويات إقليمية تسمح بتسهيل انتقال الحكومة من موقع الجمود (التعطيل) إلى حال من الفعل والتفاعل مع التحولات المتسارعة في خطواتها.
حركة المنطقة الطارئة والمستجدة تتطلب من الحكومة خلال «العينة الزمنية» إعادة تعريف الكثير من نقاط الخلاف المتصلة بالدفاع (استراتيجية التحرير) والسيادة (استعادة الأراضي اللبنانية المحتلة) والاستقلال (توضيح العلاقات مع سورية) والعدالة (حماية المحكمة الدولية وإنقاذها من الإهمال) والمصالح (ضبط العلاقات الإقليمية تحت سقف التوازنات وضغوطها المتأرجحة بين كتلتين).
هذه المهمات القديمة - الجديدة محكومة بمجموعة متغيرات قد تطرأ في الأيام «الثقيلة» الآتية، وهي أيضا مشروطة بمدى نجاح طهران في التقدم في مجال ملفها النووي في سياق التفاهم الدولي مع أوروبا وأميركا. وهذا الأمر يمكن متابعته في سياقات مختلفة تبدأ بالثلث «المعطل» أو «الضامن» وتنتهي باحتمال توصل دمشق وطهران إلى تأسيس ترتيبات مع تل أبيب وواشنطن بشأن ملفات تحتاج إلى تفاهمات تضمن الحد الأدنى من الاستقرار في دائرة ما يسمى «الشرق الأوسط الجديد».
نجاح الحكومة اللبنانية ليس مسألة لبنانية بالكامل وهناك مجموعة عوامل إقليمية مطلوبة لتوفير إمكانات النجاح. وهذا الموضوع يحتاج إلى انتظار حتى تتبلور صورة الاتصالات اللبنانية - السورية التي بدأت ملامحها بالظهور في باريس. فاللقاء الذي جمع الرئيس اللبناني بالسوري في مناسبتين ينتظر قراءة أخرى بعد توجيه الدعوة للرئيس ميشال سليمان لزيارة دمشق. الزيارة مؤشر إلى احتمال تلطيف أجواء السخونة ولكنها تتطلب بعض الوقت لرؤية اتجاه العلاقات الثنائية ومدى تلازمها مع المصلحتين أو تطابقها مع سياق سابق.
الحوار الوطني الذي يرجح أن يبدأ به سليمان بعد عودته من دمشق يتطلب أيضا وقفة زمنية لكونه يأتي بعد انقطاع بروتوكولي بين الرئاسة والعالم وبين اللبنانيين وانقسامهم الأهلي - السياسي على فريقي «8 و14 آذار». وهذا الحوار يرجح أن يحتل مكانه المهم في التوافقات، إذ سيكون له دوره في برمجة البيان الوزاري من حيث حاجته إلى آليات ترتب تنفيذ الفقرات وخصوصا موضوع سلاح المقاومة وصلته باستراتيجية الدفاع وهيكلية الدولة واستقرارها على توازنات غير قابلة للتعديل خارج الأطر الدستورية والشرعية.
إلى الحوار، هناك الاتفاق على قانون للانتخابات النيابية المتوقع حصولها في مايو/ أيار 2009. فالقانون الذي تفاهمت على خطوطه العريضة قوى «8 و14» يحتاج إلى قراءات تفصيلية حتى يخرج في صيغة تتمتع بالحد الأدنى من مواصفات التوازن والعدالة. الصيغة مهمة لأنها تعطي فكرة عن توقعات قد تنتجها انتخابات السلطة التشريعية في حال عقدت في موعدها. واحتمال تأخير أو تعطيل الدورة الانتخابية المقبلة مسألة غير مستبعدة في حال حصلت متغيرات دولية غير محسوبة أو طرأت تحولات إقليمية تقلب الطاولة وتعدل قواعد اللعبة التي استقرت نسبيا على زاويا غير ثابتة.
هناك استحقاقات كثيرة تنتظر حكومة السنيورة الثانية في الأيام المئة المقبلة. فالأيام ثقيلة في عناصرها ومشبعة في موادها المشعة التي قد تثير الدهشة في حال اندماجها وتحولها من مكان إلى آخر. وبما أن العملية الانتقالية ليست لبنانية بالكامل فإن الحكم على مدى نجاح الحكومة خلال «العينة الزمنية» يشترط انفراجات إقليمية ودولية بدأت تظهر ملامحها على خطوط الاتصال والمواصلات. سكك الحديد أصبحت جاهزة... فهل يصل القطار إلى محطته الأخيرة قبل انتهاء فترة المئة اليوم؟
الجواب اللبناني ينتظر أجوبة إقليمية ودولية لذلك يرجح أن تكون «العينة الزمنية» طويلة وثقيلة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2145 - الأحد 20 يوليو 2008م الموافق 16 رجب 1429هـ