العدد 2145 - الأحد 20 يوليو 2008م الموافق 16 رجب 1429هـ

الصهيونية بصفتها نضالا أمميا!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

بإطلاق سراح الأسرى المعتقلين في الكيان الصهيوني وعلى رأسهم عميد الأسرى المناضل الشامخ سمير القنطار، وما حققته هذه الوعود الصادقة والاختراقات المتلاحقة والمجهودات البطولية النادرة في المعارك الميدانية التي خاضها مقاتلو «حزب الله» مع إخوتهم المقاومين ضد القوات الصهيونية سيكون «حزب الله» وأمينه العام الشيخ حسن نصرالله أسسوا لمنهجية تاريخية جديدة غير مسبوقة في التعامل مع واقع الكيان الصهيوني سواء في ميدان العمل التفاوضي البراغماتي أمام معطيات الأمر الواقع المفروض، أم حتى على ميدان العمل القتالي، ما أدى إلى التفاف جماهيري شعبي كبير من أقصى المحيط إلى شواطئ الخليج مرورا ببقاع الشام وإن قدر أحيانا لهذا المد الجارف أن يتلطخ بما يحمله من أوساخ وأقذار الطائفية الاجتماعية - السياسية، وبات من الملائم أن تتساءل أنظمة الغنيمة وعروش البؤس «لماذا يحبون حسن نصرالله؟!».

وبالمثل أضحى ضروريا أن يحاكم «شارلتانات» ودجالي ومشعوذي كامب ديفيد وأوسلو وواي ريفر ومينابوليس تلك العبثية السياسية الوقوعية بمسمى «الواقعية السياسية» وبات من الضروري جرد حصادها على المذبح الواقعي ذاته!

فما ميز تجارب «حزب الله» وأمينه العام بسمته الكاريزمي الذي لا يضاهى عن غيره من حركات وتنظيمات المقاومة الإسلامية وغيرها ليس الدعم الإقليمي والتدريب والبأس القتالي العالي، وإنما ذكاؤه التنظيمي والاجتماعي والسياسي إلى جانب مرونة وقدرة فائقة على التأقلم مع الظروف والمعطيات كافة مع الحفاظ على الذخيرة المبدئية والقيمية ذاتها مرورا بخصوصيته الوضعية الفريدة، وقد بان ذلك في الأزمة اللبنانية الأخيرة مع تحركات الميليشيات المؤيدة لـ «حزب الله»، حينما أعلن على لسان أمينه العام أنه لا يريد السلطة وإن كان من السهل نيلها، فرفْض «حزب الله» السلطة لم يأتِ تواضعا وتقشفا وحبا لما وراء الكواليس أكثر من كونه حنكة واحتياطا واطلاعا على التجارب الأخرى، فدخول حركات المقاومة إلى مخادع السلطة كما حصل في تجربة «حماس» قد يكشف عن ثغرات بنيوية وأوجه خلل جوهري مخلة لا تخدم مبادئ الحزب وأهدافه وتجره إلى مصيدة واقعية - وقوعية قد لا تحمد عقباها بحسب المعطيات الحالية!

وعلى النقيض من تعامل ووعي حركات المقاومة وقوى الممانعة بالعدو الصهيوني، فقد أوجد «حزب الله» فهما عمليا جديدا بواقع الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية ليس في كونها «خنجرا مغروسا في كبد الأمة» فقط بل كلعبة أمم ولعبة وظائفية، وربما من المناسب أن أأخذ معي القارئ العزيز في مثل هذا التناسب مع الحديث عن إعادة فهم العدو الحضاري والوجودي الأول وذلك اعتمادا على المقال الذي اطلعت عليه في العدد الأخير من دورية «فورين أفيرز» الأميركية الصادرة حديثا، والتي احتوت على مقال بعنوان «إسرئيل الجديدة والقديمة... لماذا يدعم الأميركيون الأغيار الدولة اليهودية؟» للكاتب والتر راسل ميد الذي تطرق إلى النبوءات التوراتية والدعاوى الإنجيلية والإسقاطات النصوصية العبرانية المترسخة في الوجدان الجيوثقافي الأميركي حيال «أرض الميعاد» و «شعب إسرائيل».

الأهم من ذلك وبعيدا عن شيطنة التفاصيل النصوصية فقد كان الأهم هو ما أشار إليه المقال حينما قام بتجلية خصوصية السياق الأميركي الشعبي عن غيره حيث تعكس المسوح الميدانية واستطلاعات الرأي والبيانات الإحصائية تناميا فريدا في التعاطف الأميركي الشعبي مع الكيان الصهيوني ليس في إدارة الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش فقط، وإنما يمتد ذلك التعاطف الشعبي الأميركي بجذوره العميقة في دعم ومساندة الكيان الصهيوني إلى البواكير الأولى في تأسيس الولايات المتحدة الأميركية.

ويبين المؤلف أن الغالبية الساحقة من الداعمين الرئيسيين والمتحمسين الأميركيين للكيان الصهيوني هم من غير اليهود أو بالأحرى هم من «الأغيار» أو «الغويم - Gentile» بحسب التسمية التراثية والدينية اليهودية لهم، فبحسب الإحصاءات فإنه في العام 1948 كان اليهود يشكلون ما نسبته 3.8 في المئة من الشعب الأميركي، وبافتراض أن كل يهودي أميركي يدعم الكيان الصهيوني، فإن المحصلة تكون بنحو 10 في المئة ونيف فقط من داعمي ومساندي الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية هم من اليهود، وفي حين يشكل اليهود ما نسبته 1.8 في المئة من الشعب الأميركي بحسب إحصاءات العام 2007، فإنهم بذلك يكونون نحو ما يقدر بـ3 في المئة من داعمي الكيان الصهيوني!

الكاتب استعرض في مقاله إرهاصات التفاعل الأميركي الرسمي حينها مع إعلان تأسيس الكيان الصهيوني فأوضح أن الولايات المتحدة الأميركية قد اعترفت بالكيان الصهيوني بعد نحو 11 دقيقة من الإعلان عن تأسيسه، وذلك بدعم قوي من الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان والمستشار القانوني للبيت الأبيض كلارك كليفورد الذي رأى أن الاعتراف بالكيان الصهيوني هو بمثابة فعل إنساني ينسجم مع القيم الأميركية، وقد استشهد في ذلك بسفر التثنية التوراتي فيما يتعلق باستيطان الأرض المقدسة من قبل «الشعب العبراني» المتحدر من سلالة الأنبياء، وقد لقي ذلك التأييد والدعم في حينه معارضة سرية قوية من وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال الذي تعهد بالوقوف ضد هاري ترومان في الانتخابات القادمة!

وذكر المؤلف أنه حينما كان الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان يدعم بقوة الكيان الصهيوني لم يكن يفكر فقط في كسب الأصوات اليهودية وإنما حتى لينال بذلك دعم الأميركيين الأفارقة الذين عرف عنهم تضامنهم ودعمهم للكيان الصهيوني في الولايات الأميركية الشمالية، وهم الذين انجذبوا ناحية الحزب الديمقراطي الأميركي وجهوده لدعم الحقوق المدنية، وبالتالي فإن كسب أصوات الأفارقة واليهود الأميركيين شكل دعما تقدميا قويا لترومان في مواجهة القوى الأميركية اليمينية والمحافظة والتيارات الكنسية في الولايات الأميركية الجنوبية، الأمر الذي شكل عاملا نادرا لإعادة لمِّ أجزاء الحزب الديمقراطي التحالفية مرة أخرى!

وبحسب الكاتب فقد قدم الأميركيون الأفارقة نخبا وعامة دعما تاريخيا لا محدودا للمجهود الصهيوني الاستيطاني وعلى رأسهم الراحل مارتن لوثر كنغ بالإضافة إلى تأسيس تحالف متين للحقوق المدنية بين الأميركيين الأفارقة واليهود منذ العام 1945 ومرورا باغتيال مارتن لوثر كنغ.

بل إن عددا من زعماء السود الناشطين مثل دوبويز وزولا هيرستون ولانغستون هيوز وفيليب رندولف قدموا دعما كبيرا لحزب الليكود الإسرائيلي المتطرف في جهوده لتأسيس الجيش اليهودي، كما قدم زعيم الحقوق المدنية أدام كلايتون باول دعما ماليا بنحو 150 ألف دولار أميركي لميليشيا الأرغون الصهيونية، ولكن خفت حدة هذا الدعم بعد الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1967، إذ لمع من جديد نجم التيارات اليمينية المحافظة في هذا المجال!

وقد أعادتني هذه المعلومات الآنفة إلى ذلك التحليل الباحث في مقاصد اللجوء الصهيوني إلى تقوية الموجات الحرارية لذاكرة الهولوكست النازي في الوعي الجمعي الأميركي والعالمي بعد حرب الأيام الستة (النكسة الكبرى) في 1967، كما رأى ذلك الكاتب الأميركي نورمان فنكلستين الذي اعتبره نوعا من التغطية للاستراتيجية الإسرائيلية الاحتلالية والتوسعية!

وفيما يتعلق بالجهود القديرة للاتحاد السوفياتي في دعم تأسيس الكيان الصهيوني أشار الكاتب إلى حقيقة تاريخية مفادها أن الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين اعترف وأقر بصهيونيته للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في يالطا بأوكرانيا، كما أعلن وزير الخارجية السوفياتي أندريه غروميكو الاعتراف والدعم السوفياتي لإنشاء الكيان الصهيوني في مايو/ أيار 1947م وسبق في ذلك الأمم المتحدة، كما اعتبر تأسيس الكيان الصهيوني لدى اليساريين الأميركيين بمثابة جزء من التحرك العلماني والنضال التقدمي الأممي المناهض للامبريالية الذي استقل فيه اليهود عن بريطانيا العظمى.

ومن بين الحقائق التاريخية التي نزع عنها المؤلف رداء الغبار والتي تشير إلى المجهود الصهيوني الأميركي حتى قبل تأسيس اللوبي الصهيوني وبروز النشاط اليهودي المنظم ما يتعلق بعريضة العام 1891، والتي قدمها القيادي الأميركي الميثودي وليام بلاكستون للرئيس الأميركي بنيامين هاريسون في حينها، وقد تضمنت مطالبة الولايات المتحدة الأميركية باستخدام مكاتبها في دعم انعقاد مؤتمر أوروبي يضم القوى الأوروبية لمطالبة الامبراطورية العثمانية بالسعي إلى إعادة أرض فلسطين لليهود، وقد كانت الغالبية الساحقة من الموقعين على العريضة وهم أربعمئة موقِّع من غير اليهود، وكان من بين الموقعين رئيس المحكمة الأميركية العليا، والناطق الرسمي لمجلس النواب الأميركي ومجلس العلاقات الخارجية والرئيس الأميركي المستقبلي في حينها وليام ماكينلي، وحكام بلتيمور وبوسطن وشيكاغو ونيويورك وفيلادلفيا وواشنطن، وعدد من رجالات الصحافة وكبار رجال الدين المسيحيين في الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب كبار قيادات المال والأعمال الأميركيين من أمثال جون ريكفلير وجي بي مورغان وسيروس ماكوركميك، وقد أتى ذلك الدعم التاريخي في الوقت الذي لم يكن هنالك أي وجود مؤسسي لـ «اللوبي الصهيوني» الأميركي!

ومن بعد الانتهاء من المقال استحضرت في ذاكرتي بشكل تلقائي يحمل عبقا سوداويا هزليا ما قاله الباحث الفلسطيني منير العكش في أحد كتبه من أن «أكثر الجماعات رحمة ورأفة بالعرب والمسلمين في أميركا هم اليهود»!

واسترجعت المقولة المأثورة لأستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا أسعد بوخليل حينما قال إن ما يربطه بالقضية الفلسطينية برباط حميمي وثيق هو كون الشعب الفلسطيني هو الوحيد الذي كانت مأساته من الخارج لا من الداخل!

رحم الله عبدالوهاب المسيري وحفظ الله حسن نصرالله وأعان الشعب الفلسطيني الذي يعيش مؤامرة النظرية لا نظرية المؤامرة!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2145 - الأحد 20 يوليو 2008م الموافق 16 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً