يعيش لبنان الآن حالات من الارتخاء السياسي والانفتاح المتبادل على خطابات التعايش الأهلي بعد أكثر من سنتين شهدت خلالها الساحة التي انكشفت دوليا وإقليميا عمليات قصف أيديولوجي تتوجت باتهامات التخوين والتواطؤ مع «إسرائيل» لترتيب العدوان على بلاد الأرز.
هذا الارتخاء بدأ يتشكل نفسيا في ضوء تلك الصدمة الايجابية التي أحدثتها لحظة الإعلان عن نجاح عملية تبادل الأسرى. وشكل يوم تحرير الأسرى وعودتهم إلى ديارهم مناسبة للتصالح، إذ تقاطعت مشاعر الفرح على نقطة مشتركة وهي ضرورة التفاهم على صوغ هيكلية تعيد بناء استراتيجية للدفاع الوطني ترتب برنامج أولويات تبدأ بالعمل الدبلوماسي على استعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
يوم تحرير الأسرى لايزال حتى الآن يعطي مفعوله الايجابي على مختلف المستويات المتصلة بالدولة والمقاومة والمجموعات الأهلية ومواقع القوى السياسية الموزعة على جبهتي «8 و14 آذار». والمفعول الايجابي للصدمة أثمر عن «هدنة طوائف» مؤقتة يرجح أن تتبلور خطوطها الميدانية من خلال التوافق المفترض أن تتوصل إليه حكومة فؤاد السنيورة الثانية في بيانها الوزاري. فالبيان الذي يشتمل على فقرات عامة يمثل في النهاية مجموعة توازنات محلية مشدودة إلى فضاءات إقليمية. وأهمية البيان الوزاري أنه يعكس توجهات تمثل الحد الأدنى من توافقات نظرية تتطلب لاحقا لقاءات لوضع آليات ترسم خريطة طريق لإنقاذ الكيان اللبناني من الانهيار ومنع إمكانات انزلاقه من جديد نحو فوضى أهلية وفتنة طائفية ومذهبية متنقلة.
حتى الآن تبدو المخاطبات معقولة في مضمونها الايجابي وهي أخذت ترجح التفاوض على التخاصم، والتفاهم على التقاتل، والتعايش على التنافر. وهذا النوع من التوجه التصالحي يشير إلى نمو تسوية مؤقتة تراهن على «هدنة طوائف» تساهم في تخفيف الاحتقان الذي وصل قبل نحو ثلاثة أشهر إلى طور الاشتباك وأدى إلى سقوط ما لا يقل عن 200 ضحية في مختلف الأراضي اللبنانية.
صدمة تحرير الأسرى إذا كان لها دورها الايجابي في توليد مشاعر وطنية وحدت مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق على أرضية مشتركة تخالف تلك اللغة الاتهامية التي ارتفعت حرارتها بعد تجميد العدوان الأميركي - الإسرائيلي تحت سقف القرار الدولي 1701.
إلا أن صدمة تحرير الأسرى ليست هي العامل الوحيد الذي أدى إلى ترتيب «هدنة طوائف» لبنانية. فهناك مجموعة ظروف ساهمت في تخفيف قوة الضغط الإقليمية على بلاد الأرز. وجاءت تلك الظروف الايجابية لتعلب دورها في تبريد خطوط التماس المحلية وإعادة فتح حلقاتها المقفلة على احتمالات تشير إلى ظهور متغيرات في قواعد اللعبة الدولية وربما التحالفات الإقليمية.
الملف اللبناني ليس بعيدا عن ملفات المنطقة وتلك التحولات الباردة أو الساخنة التي تحيط به. وحين تأخذ الفضاءات الإقليمية بالاتجاه نحو الاستقرار والتفاهمات والصفقات لابد أن يكون لتلك المناخات السياسية تأثيرها الطقسي على حرارة أو برودة الأجواء اللبنانية. وهذا الأمر ليس جديدا في اعتبار أن بلاد الأرز تعتبر تقليديا تلك المرآة التي يمكن قراءة تحالفات وخصومات المنطقة من خلال مراقبة انعكاساتها في الزجاج (البلورة) وتلون خطوطها وتداخل عناصرها.
معالم طريق
«هدنة الطوائف» التي ظهرت على سطح العلاقات الأهلية في الأسابيع الماضية تكشف عن وجود هدنة إقليمية أخذت تنمو تحت سقف تقاربات دولية تمظهرت في ملفات أربعة. فهناك «هدنة غزة» المؤقتة بين حماس و «إسرائيل» التي أشرفت مصر على هندسة هياكلها وشروطها. وهناك مفاوضات غير مباشرة أعلن عنها رسميا بين دمشق وتل أبيب برعاية تركية ويحتمل أن تتطور إلى تفاهمات لاتزال غامضة حتى الآن. وهناك مفاوضات أميركية مع الحكومة العراقية التابعة للاحتلال تطمح نحو الاتفاق الأمني على معاهدة ثنائية لم تتبلور شروطها النهائية حتى الآن. وهناك مفاوضات أميركية - إيرانية أعلن رسميا عن انطلاقها برعاية أوروبية - دولية، ما يشير إلى بدء الانتقال من طور اللقاءات «الفنية» و«التقنية» إلى طور تفاهمات يرجح أن تكون لها مفاعيلها الإقليمية في الأمدين القريب والبعيد.
هذه التقاربات الإقليمية التي أعلن عنها رسميا في فترة متقاربة زمنيا تكشف عن وجود تفاهمات دولية على أعلى المستويات. فالدعوة التي تلقاها الرئيس السوري إلى المشاركة في قمة الاورو - المتوسطية في باريس كان من الصعب توجيهها من دون رغبة أميركية أعطت موافقة مسبقة عليها. واللقاء الأميركي - الإيراني - الأوروبي الذي حصل أمس في جنيف، ما كان بالإمكان حصوله لو لم تتوصل القوى المعنية إلى تفاهمات سابقة جرت بلورتها في تلك الجلسات «الفنية» و «التقنية» وتبادل الرسائل والتحيات عبر وسطاء عراقيين ودوليين.
كل هذه التطورات التي حصلت على ملفات التفاوض الأميركي - الإيراني، والأميركي - العراقي، والسوري - الإسرائيلي، والحماسي - الإسرائيلي، انعكست ايجابيا على الملف اللبناني الذي يشتمل على مجموعة أوراق إقليمية ممتدة من بغداد إلى بيروت ومن غزة إلى دمشق. فهذه الملفات هي حلقات في سلسلة إقليمية محكومة حتى الآن بالسقف الدولي والإدارة الأميركية لتلك النقاط الساخنة التي دفعت بمنطقة المشرق العربي وبلاد الرافدين إلى «فوضى» أطلقت عليها واشنطن تسميات «منظمة» و «خلاقة» و «بناءة» وغيرها من مفردات غير مفهومة في قاموس اللغة العربية.
الآن بدأت تتوضح معاني تلك المفردات بعد تغييب قسري للدور العربي وتهميش مواقع وعزل مراكز قوى تقليدية تمهيدا لتشجيع بدائل مصطنعة لتلعب أدوارا أكبر من مساحتها وحجمها وقدراتها. فالفوضى عادة تحصل في لحظات التعديل والتبديل وإضعاف القوي وتقوية الضعيف. وربما تكون وظيفة الفوضى «المنظمة» و«الخلاقة» و«البناءة» هي التوصل إلى تأسيس نوع من التوازنات الإقليمية تستطيع القوى الدولية إدارتها والتحكم بها في إطار برمجة قوانين تحركها الولايات المتحدة عن بعد.
«هدنة الطوائف» التي أخذت معالمها بالظهور في ساحة بلاد الأرز المكشوفة إقليميا والمفتوحة دوليا ليست بعيدة عن المفارقات التي بدأت تتشكل في أفق المنطقة العربية ومحيطها الإسلامي. فالهدنة اللبنانية التي تمظهرت في خطابات تصالحية تنتظر تبلور معالمها في البيان الوزاري الذي يرجح أن يرى النور قريبا. وانقشاع الرؤية الإقليمية من خلال المشهد اللبناني يعطي الكثير من الإشارات والرموز وينبه إلى ظهور احتمالات خلف الأفق. ولكن الرؤية اللبنانية تحتاج بدورها إلى انقشاع خريطة التحالفات الدولية في المشهد الإقليمي، وهذا الأمر يتطلب بعض الوقت حتى تكتمل صورته. فإذا كانت التسويات مؤجلة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية فمعنى ذلك أن التسوية اللبنانية موقوفة وستبقى معلقة من دون حل حتى تتوضح خطوات السيناريو في الفترة المقبلة.
لبنان الآن يعيش حالات من الارتخاء السياسي تحت سقف «هدنة الطوائف». وهذا الانفتاح الأهلي الداخلي لا يمكن الحكم على نهاياته قبل أن تتبلور معالم الطريق وتعرجاته الإقليمية في إطار معادلة دولية يحتمل أن تستقر في المنطقة خلال الفترة المتبقية من رئاسة جورج بوش.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2144 - السبت 19 يوليو 2008م الموافق 15 رجب 1429هـ
لبنان الكرامة إلى أين
لبنان ... إسم عشقناه ، ولكن رغم التكنوقراط اللى لهم الأثر في تحديد وتصويب المسار السياسي ، إلا أن الحروب الأهلية وصراعه مع الكيان الصهياني هتكت مقوماته