يذكر الجميع، بالموافقة أو بالنقد، زيارة الرئيس المصري أنور السادات الجريئة إلى القدس للتفاوض على السلام في الكنيست الإسرائيلي.
إلا أنه يتوجب على التاريخ أن يجد صفحة في حوليّاته لمصرية هي برأيي أكثر شجاعة. قبل أكثر من ثلاث سنوات من رحلة السادات المشهورة عبر المجهول، وفي الوقت الذي كان فيه العرب والإسرائيليون الوحيدين الذين يتواجهون من خلال الجنود والجواسيس، ذهبت سناء حسن، وهي طالبة دكتوراه في منتصف العشرينيات من عمرها، إلى «إسرائيل» كأول عربية، غير رسمية منبوذة من المجتمع، سفيرة سلام، وأكثر السفراء غرابة على الأرجح.
تحولت رحلة الأسابيع الستة إلى إقامة استمرت ثلاث سنوات، بين الأعوام 1974 و1977، يبدو أنها قابلت أثناءها، حسنا، كل إنسان في «إسرائيل» تقريبا. مذكراتها حول تلك الملحمة، وعنوانها «العدو في أرض الميعاد» توفر نظرات معمقة مذهلة في دينامية المجتمع الإسرائيلي وتنوعه، فتستبدل «العدو» عديم الوجه بعرض مذهل من الشخصيات والأفراد.
جاءت إقامة سناء في فترة كانت فيها «إسرائيل» ومصر في حالة حرب فعلية. على رغم أن حرب العام 1973 كانت قد انتهت رسميا، كان الجيشان مازالا يواجهان بعضهما بعضا بتوتر عبر خطوط وقف إطلاق النار. كان ذلك يعني أن سناء تواجه احتمالا حقيقيا جدا بتجريدها من جنسيتها أو أن يتم اعتقالها كجاسوسة في «إسرائيل». ولكن كما تبين بعد خمس سنوات من المنفى، حصلت سناء على معاملة البساط الأحمر لدى عودتها إلى مصر بعد معاهدة كامب ديفيد للسلام.
لم تكن سناء ساذجة ولم تكن لديها أية أوهام بشأن ما يمكن أن تُحققه مهمتها السلمية الشخصية. «يعتبر العمل الفردي في مواجهة طائرات الفانتوم ومصالح القوى العظمى أمرا مثيرا للشفقة».
أحد الأمور التي صدمت سناء وصدمتني شخصيا بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، هو كيف بدت «إسرائيل» مألوفة بشكل غريب. كانت تتوقع عاصمة «إسرائيل» الرسمية أن تكون «مدينة ضخمة عظيمة، وجوهرة متلألئة لسيادة «إسرائيل» وكفاءتها. بدلا من ذلك وجدت أن تل أبيب تشبه بازارا في الشرق الأوسط».
اكتشفت أمورا مشتركة كثيرة بين مواطنيها والإسرائيليين. «بدا الإسرائيليون وكأن لهم التشاؤم الصحي نفسه، وإن كان مبالغا فيه إلى درجة ما، في السلطة... واعتقاد بأن القانون ينطبق على الجميع باستثنائهم».
من مجالات الأرضية المشتركة الأخرى التي تم الكشف عنها الأهمية المطلقة للأسرة بالنسبة إلى الإسرائيليين والعرب على حد سواء، على رغم أن الإسرائيليين يقدرون الفردية بصورة أكبر.
أما بالنسبة إلى كفاءة «إسرائيل» الأسطورية، وهو أمر يعجب العرب به ويخافونه، فقد تجردت المصرية الجسورة بسرعة من أية مؤشرات إلى وجود هذه الكفاءة فعليا في جميع مجالات الحياة اليومية. أخبرها كاتب في أحد البنوك اليهودية أن البيروقراطيين الإسرائيليين يعملون 8 - صفر - 4 ساعات في اليوم: فهم يصلون عملهم في الثامنة صباحا، ويعملون صفرا من الساعات ويغادرون الساعة الرابعة.
إحدى المجالات التي يفترق فيها الإسرائيليون والمصريون هو مجال اللطف الاجتماعي والتهذيب والدماثة، وهو أمر أثار اهتمامها الشديد وأثّر في نفسها، كونها من خلفية وتربية أرستقراطية وذات طبيعة متمردة.
أما الفروقات الأخرى فهي طموحية الطابع أكثر مما هي فعلية. واحدة من هذه الفروقات يتعلق بوضع المرأة. الواقع أن سناء، وهي من دعاة الحقوق الأنثوية، شعرت بالامتعاض من دور المرأة في مواقع الكيبوتز التي يفترض أنها تقدمية. «احتجت إلى فترة قبل أن أدرك أن الصورة الفاتنة الساحرة للرائدات من النساء يحرثن الحقول وينقلن روث المواشي... كانت أسطورية إلى حد بعيد». أصرت سناء المصممة على العيش ضمن مبادئها والتمرد على خلفيتها الأرستقراطية وإثبات أنها ليست امرأة مصرية ناعمة للإسرائيليين، على القيام بالأعمال الصعبة التي تناط عادة بالرجال.
اكتشفت سناء كذلك أن مفهوم التحرر الجنسي كان سطحيا في الغالب، حتى بين سكان الكيبوتز التقدميين. «كان ازدراؤهم لمؤسسة الزواج وطائفة العذرية لا يحتوي على عقيدة الحب المتحرر» لاحظت سناء.
إضافة إلى النواحي الفضلى في المجتمع الإسرائيلي، توافرت لسناء الكثير من الفرص لاستكشاف جميع النتوءات الصغيرة. كان التمييز ضد اليهود الشرقيين واحدا منها. «كنا نعيش جنبا إلى جنب مع المسلمين من دون مشكلات، وصدقيني أن غير اليهود كانوا أكثر لطفا تجاهنا من اليهود الإسرائيليين هنا»، تذمر أحد اليهود من جورجيا لها. يتواجد مواطنو «إسرائيل» الفلسطينيون على المستوى الأقل انخفاضا من اليهود الشرقيين، وعلى رغم تساويهم المعلن أمام القانون، وجدت سناء واقعا مختلفا جدا. أصابتها الصدمة من الازدراء العرضي بل وحتى التفرقة العنصرية التي يعبر عنها اليهود الإسرائيليون نحو الفلسطينيين: تفرقة في التعليم وسوق العمل، وكيف جرى استغلال إجراءات الأمن والطوارئ وبعض القوانين الخلافية لحرمان الفلسطينيين من أراضيهم.
وعلى رغم أنني وجدت أن الحال قد تحسن منذ تلك السنوات، فإن وضع المواطنين الفلسطينيين في «إسرائيل» مازال متقلقلا إلى درجة كبيرة. الواقع أن سناء شعرت بالقلق نفسه الذي شعرت به عندما كنت أتنقل بحرية في الضفة الغربية بينما كان الفلسطينيون الذين استضافوني يحتاجون إلى تصاريح للذهاب إلى أي مكان.
وحتى يُسمح لهم بالمشاركة في المجتمع حاول بعض الفلسطينيين الانخراط بشكل كامل في الثقافة الإسرائيلية. تفاخر وهيب، وهو طالب من أسرة من أعلى الطبقة الوسطى بأنه يجيد العبرية أكثر من إجادته للعربية. «لا أشعر بأني ممزق» يصِّر وهيب، «فأنا فلسطيني أولا، ثم مسيحي ثم إسرائيلي». أما والده، الذي يقول إنه ربى أولاده بحيث يحافظون على رؤوسهم مطأطئة، فقال: «يمكن للسياسة أن تكون صعبة جدا علينا. نحن غرباء في أراضينا». على الجانب الإسرائيلي تستطيع سناء تمييز الكثير من بذور الأزمة الحالية، أكثر مما أمكن قبل ثلاثة عقود. عند زيارتها، وحيث إن الطريق كانت ممهدة أمام حركة الاستيطان الدينية في الضفة الغربية، شعرت بالخوف من أن تؤول الأراضي التي جرى احتلالها العام 1967 في الطريق نفسه الذي ذهبت فيه الأراضي التي احتُلت العام 1948، الأمر الذين سيدمر احتمالات السلام.
كذلك ملأ عناد السياسيين في التيار الرئيسي وتصلبهم سناء بشعور ينذر بالشر. عبَّر كل من مناحيم بيغن على اليمين وغولدا مائير على اليسار بمعارضتهم للتنازل عن الضفة الغربية والقدس وغزة.
ساعد ما تعلمته سناء أثناء إقامتها في «إسرائيل» على إضفاء الإنسانية على المجتمع لديها، وتطوير تقدير بل وحب للشعب والمكان، إلا أنه ملأها باليأس كذلك. «لقد ألقيت إيماني المتفائل في السلطة اللا نهائية للطرح العقلاني بتحقيق الانسجام والتناغم بين اليهود والعرب» تعترف سناء.
لم أصل بعد إلى تلك النقطة، وآمل أن يتمكن الحوار والمشاركة المعمقة من تحريكنا على المسار البطيء نحو السلام.
* مولود في مصر، وقضى نصف حياته في الشرق الأوسط والنصف الآخر في أوروبا، وهو صحافي وكاتب مركزه بروكسل، يكتب عن مجال واسع من المواضيع بما فيها الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط والإسلام والعلمانية والتعددية الثقافية وحقوق الإنسان، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2144 - السبت 19 يوليو 2008م الموافق 15 رجب 1429هـ