العدد 2143 - الجمعة 18 يوليو 2008م الموافق 14 رجب 1429هـ

واشنطن - طهران... من الغموض إلى الوضوح

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل وصلت الاتصالات «الفنية» و «التقنية» بين إيران والولايات المتحدة إلى طور متقدم من التفاهمات السياسية حتى تبادر واشنطن إلى الإعلان عن إرسال مساعد وزير الخارجية الأميركية وليام بيرنز للمشاركة في اللقاء الذي سيعقد اليوم في جنيف؟

الإعلان عن المشاركة الأميركية في لقاء يضم الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا وكبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني سعيد جليلي يعتبر خطوة نوعية تحاول كشف الغطاء عن اجتماعات متوالية جرت في السنوات الثلاث الماضية بين الطرفين تحت قصف كثيف من التصريحات النارية والصواريخ الايديولوجية. فالإعلان عن المشاركة هو الجديد في موضوع الاتصالات الثنائية، أما اللقاءات المتواصلة التي حصلت بين الطرفين فهي ليست جديدة في اعتبار أن طهران تعاملت مع المتغيرات الدولية والإقليمية في أفغانستان والعراق بصفتها الطرف المعني مباشرة بما يحصل من تطورات في البلدين الجارين جغرافيا.

لماذا قررت واشنطن الإعلان رسميا عن المشاركة في لقاء جنيف في وقت كانت حريصة سابقا على عدم كشف أسرار تلك الاتصالات والتوافقات التي توصلت بشأنها مع طهران؟

هناك احتمالات كثيرة منها أن الاجتماعات الثنائية التي تمت في السنوات الماضية وصلت إلى موقع متقدم من التفاهمات ولم يعد بالإمكان الاستمرار في سياسة الإخفاء والانزواء وراء الدخان الكثيف من الشعارات الايديولوجية والبخارية. فالإعلان رسميا هو بداية اعتراف بوجود توافقات ميدانية تخطت المألوف ولم يعد بالإمكان السكوت عن نتائجها التي قد تثمر بداية عن فتح مكاتب تجارية وممثليات وربما السماح بفتح خط طيران مباشر بين العاصمتين.

الصمت عن وجود لقاءات استنفد أغراضه وفقد وظيفته ولم يعد يلعب تأثيره النفسي على شعوب المنطقة ودولها. فالمعلومات التي أخذت تتسرب من مراكز قوى وجهات صحافية أوضحت الكثير من خفايا الأمور وأسرار اللعبة وكشفت ميدانيا وجود تنسيق على أكثر من صعيد. المعلومات والتقارير الصحافية أضعفت قوة التأثير المعنوية التي تقصدت الولايات المتحدة إثارتها من خلال حشد السفن البحرية وإجراء المناورات الحربية. في السابق كان الإعلان عن تجارب يثير الفزع ويرفع درجات الرعب في منطقة الخليج والدول العربية. الآن لم تعد تلك التجارب تتعدى إطار المناورات التي تخدع أكثر مما تهدد. في المقابل فقدت التصريحات الايديولوجية التي تطلقها القيادة السياسية في إيران قيمتها السياسة حين أخذت عواصم المنطقة تتعامل معها بخفة ولم تعد تأخذها بجدية كما حصل الأمر منذ ثلاث سنوات.

تراجع العامل النفسي لعب دوره في دفع واشنطن الإعلان رسميا عن المشاركة في لقاء جنيف، والإقلاع عن سياسة المناورات والتجارب والحشود التي استهلكت ولم تعد تعطي تلك الثمار المطلوبة للضغط على المنطقة ودول الخليج العربية. كذلك لم تعد تجارب الصواريخ الإيرانية تعطي مفعولها الايديولوجي حين اضطرت واشنطن أخيرا إلى الكشف عن هشاشة منظومتها وضعفها التقني وعدم فاعليتها.

استخفاف واشنطن بقدرات إيران العسكرية كان إشارة واضحة للبدء في الانتقال من طور اللقاءات «الفنية» و «التقنية» إلى مستوى أعلى من الاتصالات السياسية التي أعلن عن خطوتها الأولى في جنيف اليوم. فالاستخفاف بالقوة العسكرية والتأكيد على ضعف إيران الاقتصادي والاستهتار بإمكانات طهران التقنية والسخرية من طاقاتها النووية واتهامها بأنها تدعي التوصل إلى اختراقات في مجالي القنابل والصواريخ كلها عناصر تدل على أن واشنطن قررت الخروج على تلك «اللغة المزدوجة» التي مارستها في السنوات الثلاث الماضية وأدت وظيفتها في تكتيك الخداع وتأثيره النفسي على شعوب المنطقة ودولها.

لغة مزدوجة

الانتقال من اللغة المزدوجة (تهديدات واتهامات من جهة واتصالات ولقاءات من جهة أخرى) إلى الوضوح في التعامل السياسي مع طهران يشير إلى وجود تطور مهم على صعيد التفاهم الإقليمي بشأن الدور الإيراني مقابل احتواء عناصر تفجير تبين أنها وهمية كما أخذت تردد وسائل الإعلام الأميركي نقلا عن مسئولين في إدارة واشنطن.

هذا الوضوح ليس جديدا وإنما يمكن ملاحقة حلقاته من خلال متابعة تلك الإشارات اللافتة التي صدرت عن مواقع القرار في الولايات المتحدة بعد تشكيل لجنة بيكر - هاملتون والبدء في الاتصالات الرسمية في مطلع العام 2006. والحرب الأميركية - الإسرائيلية التي شنت على لبنان في صيف 2006 جاءت في السياق المذكور وشكلت خطوة اختباريه لفحص جدوى تلك الصواريخ وفعاليتها من جانب ومحاولة رصد لمدى استعداد دمشق وطهران للتدخل عسكريا من جانب آخر.

عدم التدخل خلال فترة العدوان التي دامت نحو 34 يوما أعطى إشارة إيجابية لواشنطن بأن ما يقال في الصحف والتلفزة عن الحرق والإبادة والتدمير والاقتلاع مجرد كلام ايديولوجي لا معنى له في الميادين العسكرية. وبناء على هذا المعطى أسست واشنطن مجموعة قناعات منها أن محور دمشق - طهران ليس جاهزا للمواجهة وإنما هو على استعداد للتفاوض العلني وتطوير الاتصالات «الفنية» و «التقنية» التي تعقد وراء الكواليس إلى تفاهمات يمكن إظهارها عمليا في الملفات العراقية والفلسطينية واللبنانية.

بعد العدوان على لبنان الذي استهدف الدولة والمقاومة معا أخذت تظهر إشارات سياسية على خط تلك الاتصالات والإجراءات العملية وتمثلت في بعثات متنوعة الأشكال والألوان إلى سورية وبروز توجهات أميركية تظهر إمكان التفاهم مع إيران. فبعد العدوان صدر تقرير بيكر - هاملتون الذي يحض على إجراء اتصالات بدول الجوار ومع دمشق وطهران. وترافق الأمر مع إجراء تعديلات في طاقم إدارة بوش بعد الانتخابات التشريعية النصفية وهزيمة الجمهوريين في الكونغرس.

بعد ذلك صدر تقرير المخابرات الأميركية (16 جهازا) في نهاية العام 2007 يؤكد أن إيران أوقفت برنامجها النووي العسكري منذ العام 2003. وهكذا أخذت أوراق ملف اللقاءات «الفنية» و «التقنية» تتوضح بوجود وزير جديد للدفاع في الولايات المتحدة يعتمد منهج المخابرات في الحروب، وصولا إلى تقليل واشنطن من قدرات إيران النووية والاستخفاف ببرنامج الصواريخ واتهامها بأنها تبالغ في تطورها التقني بينما هي في واقع الأمر مجرد دولة فاشلة في السياسة والاقتصاد وتحتاج إلى معونات لتحسين الظروف المعيشية لشعبها.

هذا التحول الدراماتيكي من اتهام إيران بزعزعة الاستقرار الإقليمي وأنها تمتلك مشروعات نووية وصاروخية تهدد المنطقة وأوروبا والسلام العالمي إلى تسخيفها والسخرية من إمكاناتها التقنية والهزء من برنامجها الصاروخي يوضح أن الولايات المتحدة قررت رسميا الانتقال من «ازدواجية اللغة» وسرية اللقاءات إلى طور متقدم في التعامل السياسي الواضح مع طهران.

اللقاء الأميركي - الأوروبي - الإيراني الذي يعقد اليوم في جنيف يشكل خطوة مفصلية في سياق سياسة اتسمت بالغموض والسرية وجرى تمريرها على ثلاث سنوات تحت قصف مدفعي متواصل من التصريحات الايديولوجية والبخارية. ولقاء اليوم يرجح أن يكون بداية للإعلان لاحقا عن خطوات رسمية احتوائية ترسم تلك الخطوط العريضة عن توجهات اعتمدت سابقا وراء الكواليس وحان الآن وقت خروجها إلى المسرح الإقليمي برعاية أميركية وإشراف أوروبي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2143 - الجمعة 18 يوليو 2008م الموافق 14 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً