لم أكن أتخيل أن هناك نوعية من البشر تعيش من حولنا ومعنا قلوبهم قاسية بهذا المستوى، بل لم أكن أتوقع أن هناك بالمقابل من هو أسذج من ذلك، ولكن الواقع أحيانا يقول كلمته الأخيرة لنصحو نحن بدورنا من غفلتنا ونضع علامات التعجب والاستغراب والاستنكار ولكن ذلك لن يكفي لنا، ولن يكون الحل بل انه لن يساهم في إيجاد الحلول، فغالبية الحلول لا تأتي إلا من خلال توافر أرضية خصبة ومناسبة لعمليات الوعي والإحساس بالمشكلة والتشخيص الدقيق، ونحن نقول على الدوام ان التشخيص نصف العلاج. والسذاجة ربما تكون وقود المشكلة، فكلما توفر قدر أكبر منها تعقد الموضوع أكثر.
ما أحزنني فعلا وجعلني أشعر بالاكتئاب لعدة أيام انني وجدت هذه المرة - وللأسف الشديد - العديد من النماذج التي تكاد تخرج من إنسانيتها، لحبها للمال وللتملك ولعبودية ما تملكه «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»، سأسرد لكم ما أحزنني فعلا جاء ذلك نتيجة حب تملك المال والولد: إحدى الموظفات في إحدى الوزارات التي يفترض أن تكون متعلمة وفاهمة وواعية، ولكن بعيدا عن كل تلك النعوت فهي للأسف الشديد تحت رحمة والدها ما جعلها تعيش حالة من السذاجة وقلة الوعي والحيلة، العنوان الأول قد يسبب جدلا غير علمي للبعض، فقد يكون غير خطأ أن يظل المرء تحت رحمة الوالد في ظل الأفضال الكثيرة التي قد يمنه عليها، ولكن أظن أن الحالة التي أتناولها غير صحية بالمرة، وقد تكون مقبولة لو أنها كانت ضمن الأطر الطبيعية والصحية، ولكنها في الواقع تجاوزته بل وتجاوزت كل الحدود الإنسانية، الحالة التي أتحدث عنها عبر هذا المقال، فتاة تخرجت من الجامعة واستطاعت أن تحرز منصبا جيدا في احدى الوزارات ولكن حكم عليها بالمؤبد أن تظل عانسا طوال عمرها وحياتها، فوالدها يرى أنها إذا تزوجت فإنها دون أدنى شك ستأخذ راتبها معها إلى حيث حياتها الزوجية، وربما تساهم بشي بسيط لبيت أهلها ولكنها ستظل تحتفظ بحقها في راتبها في حين أنها اليوم لا تملك حتى بطاقة الصراف الآلي فقد استحوذ عليها، وأصبح القابض والآمر الناهي في راتبها، والأدهى والأمر أنها لا تعطى منه سوى المصروف الشهري ذاته التي كانت تأخذه سابقا من أيام ما كانت طالبة في المدرسة، دون الالتفات إلى أن المرحلة والسن قد تغيرا وبالتالي فإن هناك متطلبات وأمورا أخرى يجب أن تضع في الاعتبار والحسبان، لم يعد أمامها حتى التدرب على سياقة السيارة أو امتلاك سيارة حالها كحال من هم في سنها، ليس تعصبا في الأمر، ولكن بغرض إحكام القبضة على الراتب وبنوده.
تقول انها تصحو من النوم في الصباح الباكر وتذهب لعملها تكدح طوال الشهر ولا تنتظر شيئا لأنه الراتب الشهري معروف أين يذهب، وليست لديها طبعا الجرأة لمواجهة والدها أو استرجاع حقها، وليس ذلك ما يحرق قلبها ولكن أن يحكم عليها بالإعدام بمعنى أن يرفض كل من يتقدم لخطبتها وأن تظل تحلم أن تقوم بأدوار الزوجة والأم، حكم عليها بالمؤبد فقط لكونها الابنة الكبرى التي يجب أن تؤمن لأسرتها كل متطلبات الحياة، رغم كون والدها هو الآخر يعمل في وظيفة جيدة، ولكن ما يقوم به «زيادة الخير خيرين».
عندما سمعت منها ما يؤلمها وما أحزنني تذكرت على الفور احدى القصص التي قرأت عنها سابقا في أعمدة أحد الزملاء، قصة قد تتشابه في مضمونها مع أذكره بل ربما تكون أقسى لكون الوالد تفنن في ذلك لكونه أدى الدور لكل بناته بل ان أكبرهن عندما كانت تحتضر كانت تقول لولدها انها لن تسامحه أبدا لكونه حرمها من أن تمارس دورها الطبيعي في الحياة، وأن تعيش كغيرها من النساء أن تكون الزوجة والأم، وأن تعيش تلك الأدوار بنفسية تختلف كل الاختلاف عن النفسية التي عاشت بها وماتت عليها، كان ذلك محزن فعلا. ألم أقل لكم ان هناك من لايزال يختار بنفسه أن ينتزع إنسانيته فقط من أجل المادة.
نقول ذلك ونتكلم عنه من جديد لنساهم بدورنا في إحياء الضمائر والعقول والقلوب من جديد والعمل على توعية المؤمن منه حتى لا تتكرر التجارب السيئة وخصوصا أنه إذا فات الفوت لا ينفع الصوت، أحيانا الإنسان لا يقتنع بخطأ ما يرتكبه إلا في الوقت الضائع وقتها الندم وحده غير كاف، وكلنا محاسبون أمام الله سبحانه وتعالى، نقول لهؤلاء الآباء - الذين إن شاء الله لا يكون عددهم كثيرا حتى لا يكونوا سببا لمشاكل اجتماعية - بأن عليهم أن يكونوا أيديا خيرة في حل المشاكل وإصلاحها لا التسبب بها، ونقول للبنات أيضا اللاتي يتعرضن لمثل تلك المحن والابتلاءات: عليكن أن تواجهن ما ابتليتن به بالصبر والحكمة، وأن تعملن جاهدات على محاورة الوالد بالكلمة الطيبة أو العمل على إيجاد الوسطاء الذين يمتلكون حكمة وحسن تصرف، فقد يكون الآخرون أيضا بحاجة إلى من يوعيهم ويبين لهم الخطأ من الصواب.
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2143 - الجمعة 18 يوليو 2008م الموافق 14 رجب 1429هـ