هل تكون الصيغة اللبنانية الصيغة المستقبلية للبلدان المشرقية، والأفق الذي تشخص نحوه كيانات تلك المنطقة، إن لم يمسسها تحوير يعيد تركيب مكوناتها على نحو ونسق غير ذينك اللذين عهدتهما منذ أن فُصلت عن المجال العثماني في أعقاب الحرب الكونية الكبرى، ثم منذ أن استوت دولا مستقلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية؟
قد يبدو هذا السؤال غريبا، إن لم نقل مريبا، إذ يلوح كالزاعم إضفاء صفة النموذج على ما درجت نخب المنطقة، وتلك اللبنانية منها في المقام الأول، على حسبانه أنموذجا - مضادا، عنوان حرج وهشاشة، مبعث انشقاق أهلي مطّرد متجدد، ينفجر نزاعات على نحو دوري، نشازا مضنيا لأهله ولجواره، وذلك قياسا إلى ما يُتوهّم «قاعدة» مستتبّة أو ما يقوم مقامها، هي المتمثلة في الدولة المركزية، المتجانسة صلدة والمنسجمة هيئة مُحكمة، قد يُبلغ في تبجيلها مبلغ الانسحار بمقترفي الانقلابات العسكرية بُناة أنصبة الاستبداد.
وراء ذلك، بطبيعة الحال، مسبقات هي من صلب الإيديولوجيا العربية، بالمعنى الأوسع وغير الحصري لهذه العبارة، أفكارا مبثوثة تشكل «المادة الأوّلية» للوعي السياسي لدى النخب والجمهور، سواء تبلورت في تيارات بعينها، وطنية أو قومية أو إسلامية، أم لم تتبلور، قوامها (نعني تلك المسبقات) ثنائيات راسخة مطلقة التنافر: وحدةٌ تناصب التعددَ العداء نقيضا مبرما، اندماجٌ يقابله مقابلة الضد للضد تجزيء وتفتيت... وقس على ذلك.
غير أن ما يعنينا هنا ليس الدخول في مفاضلة بين «النموذجين»، إذ ليس فيهما ما يدعو إلى المفاضلة. الصيغة اللبنانية معلومة عاهاتها، لا تنفك بادية للعيان منذ أكثر من ثلاثة عقود، إن نحن توقفنا عند التاريخ القريب والراهن، عسرا في تحقيق التئام ذلك الكيان ومكوناته حول ترتيب تأخذ به وتطمئن إليه، فإذا هي أزمة دائمة تراوح بين تعايش بين تلك المكوّنات لا مناص منه وبين قصور ملازم عن بلوغه. أما الصيغة المركزية فهي ليست أفضل حالا، إذ هي قد تفلح في إحلال الاستقرار، ولكن إلى حين وبثمن باهظ، أساسه الاستبداد ووسائله القسر والإرغام، قاسٍ مولّد للضغائن، وهي لذلك لا تلغي أسباب التفكك بل تؤجله، وهي إذ تفعل متوخية تلك الوسائل إنما ترسي الاحتقان وتغذيه.
لذلك، ليس في أخذنا بتلك الفرضية التي انطلقنا منها سؤالا حول ما إذا كانت الصيغة اللبنانية أفقا تشخص نحوه كيانات المنطقة مستقبلا لها محتملا، لا ينم عن تبجيل لتلك الصيغة أو عن تفضيل، إنما هو يحاول استقراء الواقع القائم وممكناته.
إن كان من سمة فارقة للصيغة اللبنانية، فهي تسليمها بالفشل في استخلاص وحدة الكيان ودولته من مقومات فيهما داخلية، صير إلى التعويض عنها بعوامل (قوى) خارجية، ذات نفوذ إقليمي أو دولي، ترسي فيما بينها مساومة يكون نتاجها في الحالة التي تعنينا لبنان. مشكلة تلك الصيغة أنها جراء ذلك وبفعل افتقارها إلى مقومات التماسك الداخلية هشة بطبيعتها، متحوّلة لا تثبت على حال، بفعل ما يطرأ على تلك القوى الخارجية، المؤثرة والضامنة للتوازن، من تقلب على صعيد النفوذ وعلى ميزان القوة بينها. ليس في القول بذلك من جديد، بل هو من البداءة البالغة مبلغ الابتذال.
لذلك، إن كان من عنصر جدّة في هذا الطرح، فهو ذلك الذي يتوقع لبقية كيانات المنطقة المشرقية أو لبعضها مآلا كذلك اللبناني، يجد في تنامي الهويات العضوية الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وفي نزوع الكيانات إلى التفكك أماراتٍ ترجّحه. ربما مثّل العراق ذلك الذي جاء الغزو الأميركي قبل سنوات خمس ليودي بالنظام الذي كان يحكمه فأودى بدولته مثالا ذا دلالة على كيان، قام حتى احتلاله على مركزية قسرية شديدة القسرية، كانت قد تأزمت وفقدت مقوّمات الاستمرار حتى قبل ذلك الغزو ربما، فانطلقت قوى الانتماء العضوي من عقالها، وبرزت إلى الواجهة الطوائف والقوميات والمذاهب، تشخص بأبصارها نحو خارج ما تنشد الدعم، على أساسٍ مذهبي أو طائفي، أو على أساس مجرد التحالف.
ما هو في حكم اليقين أو يكاد أن بروز تلك القوى مبرم لا رجعة فيه وأنها ستظل في المدى المنظور فاعلة تحظى بالتأثير، حتى إذا ما استعادت بلاد الرافدين تماسكا، فإنه سيكون خلاصة مساومات بينها على تعايش لا مناص منه، على شكلٍ قد يكون فيدراليا أو على أي شكل سواه يُصار إلى توخيه سيكون على أية حال بحاجة هو بدوره وعلى نحو تأسيسي إلى ضمانة خارجية (إيرانية وأميركية وربما تركيّة أو سواها) بحيث يكون التوازن الداخلي جزءا من توازن إقليمي، أي بمعنى آخر خلوصا إلى ما يمثل لب ما يُعرف بالصيغة اللبنانية.
وذلك ما قد يكون أيضا مآل سورية، إن اعترى تماسكها (وهو أمني في المقام الأول) اضطراب، وجدّ من العوامل الداخلية أو الخارجية ما يفضي إلى انهيار نظامها.
فالصيغة اللبنانية هي، على علاّتها، ما يتبقى متاحا، حيث ما وُجد كيان متعدد المكوّنات، يتعذر القفز من فوقه، مجالا اضطراريا للتعايش من ناحية، ولا يمتلك مقوّمات تماسكه الداخلي من وجه آخر، يستقيها من بيئته الاستراتيجية، ازدواجية ولاء، استقواء بخارج كاسر على داخل غير مطمئِنٍ، بحيث لا يتيسر الانتماء إلى الوطن إلا بالانتقاص منه، شرطا لذلك الانتماء شارطا.
كل ذلك لأن الصيغ «المركزية»، فشلت، منذ أن بعثت إلى الوجود مع استقلال دول المنطقة، في اجتراح وطنيات ناجزة، بحيث يمكن القول إنه إذا ما كان لمقولة «الدول الفاشلة» تلك التي ترددها أوساط أميركية بعينها من جدوى تفسيرية في ما يخص تلك المنطقة، فهي تلك المتمثلة في أنها قد تمثل تشخيصا لا يخلو من دقة لذلك الوضع.
بل إن الفشل ذاك قد يكون أشمل من أن يتوقف عند حال تلك الكيانات وأبعد مدى، وقوامه أنه ليس بين تلك القوى الخارجية الراعية للتوازنات الداخلية لتلك الكيانات قوة تتأتى من المجال العربي. وذلك ما سيكون موضوع تناول مستقل.
*كاتب ومفكر تونسي، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2143 - الجمعة 18 يوليو 2008م الموافق 14 رجب 1429هـ