ليس غريبا أن نجد «الماركسي» و»الليبرالي» و»العلماني»، يقفون على أرضية سياسية - فكرية واحدة لمواجهة حركات الإسلام. فالإسلام الذي استطاع أن يوحد الناس في إطار العداء التاريخي والحاسم لهيمنة الغرب ونفوذه، قام في الوقت نفسه بتوحيد مختلف الفئات المتغربة أو المستفيدة من العلاقات الدولية في إطار مشترك ضده.
كيف قدر لمختلف هذه الفئات المتفاوتة والمتضاربة في الكثير من النواحي أن تتفق كلها على ناحية واحدة في مناصبة العداء للتيارات الإسلامية؟ لاشك في أن النظرة الواحدة من مختلف هذه المجموعات السياسية والاجتماعية للإسلام تقوم على الفهم المشترك، ومن الزاوية نفسها التي صاغها تراث الغرب لنا على امتداد فترة تغلغله وسيطرته.
بقي خارج هذه النظرة والزاوية مجموعة القوى والفئات التي وجدت في الغرب الأداة التي تريد تدمير التاريخ الذي صنعه الإسلام، وذلك كمقدمة لمواجهة ثقافة الإسلام في مراحل لاحقة. لذلك ليس غريبا أن تشهد بعض المناطق الإسلامية حالات من الصراع الحاد بين هجمات دول الغرب والاتجاهات الدينية. وجاءت هذه الصراعات على أثر فشل نماذج الغرب في تطويع التيارات الدينية، وعجزها عن دمج الإسلاميين في إطار التحديثات الأوروبية التي نهضت في أعقاب انتصار دول الغرب في الحرب العالمية الأولى.
مقابل هذا الفشل نجح الغرب في تكييف بعض القطاعات، أو الفئات الاجتماعية، في دائرة نفوذه الحديث. وعلى رغم هذا النجاح المحدود لم يستطع النفوذ الغربي المعاصر أن يكسب لنفسه مواقع ثابتة في بنية المجتمعات الإسلامية. وبقى هذا النفوذ في إطار نسبي من العلاقات الاقتصادية والسياسية الحديثة، من دون أن يحقق الاختراق في العمق لكسر الجليد القائم بين القوى التقليدية والقوى العصرية في المجتمع. وبسبب التفاوت القائم في العلاقات وصل الغرب إلى حال من التأزم، وبات نفوذه في المنطقة مهددا بالانهيار عند كل لحظة تاريخية.
لم تقتصر أزمة التأثيرات الغربية على القطاعات أو الفئات التقليدية في المجتمعات الإسلامية، بل اشتملت بعض القطاعات والفئات الحديثة التي نمت أساسا في ظل النفوذ الغربي لتقوم بدور الوسيط بين أوروبا ومجموع قوى المجتمع. ولكن على رغم الخلافات القائمة بين الفئات العربية الحديثة والغرب بقي العداء على أشده بين الفئات التقليدية المنكفئة على نفسها وأوروبا المعاصرة.
لذلك شكلت الفئات التقليدية وجه الصراع الأبرز والأشد تماسكا في مقاومة النفوذ الغربي واتجاه العلاقات الرأسمالية الحديثة إلى السيطرة. أما الاتجاهات السياسية المعارضة التي نمت في ظل الهيمنة الغربية فإنها لم تستطع أن تشكل قوة الاستقطاب الفعلية لمختلف فئات المجتمع على رغم تأزم علاقاتها مع نفوذ والسيطرة الغربيين. وسبب فشل التيارات السياسية الحديثة المعارضة للهيمنة أو التبعية للغرب يعود إلى أن هذه الفئات كانت تقاتل أو تحاول أن تقاوم الأجنبي على أرضية العلاقات الحديثة نفسها التي استكملت سيطرتها عقب امتداد النموذج الأوروبي في العالم.
لهذه الأسباب الموضوعية عجزت هذه التيارات عن تشكيل قوة استقطاب سياسية فعلية لخوض المواجهة العامة واقتصر دورها على الضغط السياسي في الحدود والإمكانات المتاحة لها. ونتيجة اقتصار دور هذه التيارات السياسية العربية الحديثة على نهج المعارضة المحدودة الإطار لم تستطع أن تتحول إلى قوة جاذبة لجسم المجتمع الإسلامي لمواجهة الأجنبي على رغم أنها استطاعت أن تتحول في حالات معينة إلى قوة ضغط في مناسبات عامة ومعينة.
هكذا على رغم كل المحاولات التي قامت بها التيارات السياسية الحديثة في معارضتها للأجنبي عجزت عن أن تشكل البديل عنه، وفي الوقت نفسه القوة المقاتلة ضده. وكان لابد أن تبدو ساحة الصراع في مواجهة الغرب خالية من قوة الجذب السياسية إلى فترة طويلة نظرا إلى غياب الإطار والقوة المحركة للفئات المنكمشة على نفسها في مواجهة الأجنبي. وكان من الطبيعي عند فشل التيارات السياسية الحديثة في مقاومة الغرب وعدم قدرتها على استقطاب الناس في مواجهته أن تخلو الساحة من عناصر المجابهة الفعلية. والفراغ الذي ولدته التيارات المعارضة الحديثة في فترة انسحابها من ساحة الصراع الرئيسية لم ينتظر طويلا لإيجاد القوة القادرة على تعبئته.
اليوم إذا نظرنا إلى مختلف البلدان الإسلامية نرى أن الفراغات التي خلفتها الفئات المعارضة الحديثة بدأت بالامتلاء من خزان القوى والفئات التقليدية. وعلى موازاة هذه الظاهرة نشهد أيضا أن الفئات المنكمشة على ذاتها بدأت بالتفتح على أصوات دعوات الانتفاضة الإسلامية، لتخوض المجابهة الحاسمة مع الغرب، بينما نرى في المقابل الفئات الحديثة أخذت بالانكفاء السياسي في ظرف تتطلب فيه المعركة كل الإمكانات والطاقات. ويعود سبب هذا الانكفاء السياسي إلى خوف المعارضة الحديثة على نفسها وأفكارها وأيديولوجيتها، كما أنها تخاف من طغيان موجة الأكثرية الإسلامية في مجابهة الغرب ومقاومة الأجنبي. لذلك نرى أن المعارضة السياسية الحديثة فضلت الانكماش في حالات معينة أو التأييد العلني اللفظي في حالات أخرى على الاستجابة لنداء المواجهة العامة.
بدلا من أن تحاول هذه الفئات الحديثة فهم هذه الظاهرة وتفسيرها وتحليلها كمقدمة للتعامل الإيجابي معها نرى أنها أخذت مواقف انسحابية وأكثرت من ملاحظاتها السلبية على بعض المتغيرات التي تبرز في المجابهة الدائرة على عدة مستويات.
طبعا إن مواقف هذه الفئات الانسحابية لا تعود فقط إلى خوفها الأيديولوجي على مصالحها وعلاقاتها ومعارضتها النسبية للعلاقات الرأسمالية على قاعدة الغرب نفسه بل أيضا تعود إلى تمسكها بوسائطها المعرفية في فهم هذه الظاهرة والتقاط حركتها الداخلية. واعتماد الفئات الحديثة على الأدوات المعرفية الغربية ساهم في تبرير هذا المواقف الانسحابية وتغليفها في الإطارات الأيديولوجية الجاهزة. ولم يكن الخطأ القاتل في اعتماد الفئات الحديثة على المنهج الحديث في تحليل هذه الظواهر بل كان أساسا في عدم قدرة الفئات المذكورة على تكييف هذا المنهج مع معطيات الواقع عند محاولة تحليله وتفسيره. لذلك لعبت هذه الوسائط - الأدوات المعرفية دورا في تضليل الفئات الحديثة وأدت إلى عدم استيعابها لحركة الواقع. وبدلا من أن تكون الوسائط - الأدوات المعرفية نقطة استناد للانخراط في المقاومة شكلت نقطة اغتراب عن الواقع ومحاولة لكبح موجة المعارضة الجذرية لسيطرة الأجنبي. وأدت إساءة استعمال الوسائط - الأدوات المعرفية إلى عدم التكيف مع الواقع المتغير بالتالي عدم الاندماج مع نهج الأكثرية المقاومة لسيطرة الغرب.
لذلك لم تكن المقدمات النظرية للقوى الحزبية المعاصرة خاطئة في فهم واستيعاب الصراعات التي تشهدها البلدان الإسلامية فقط بل كانت النتائج السياسية التي توصلت إليها خاطئة أيضا. وعجز الفئات العربية الحديثة على التكيف مع الواقع ساهم في عجزها على تكييف النظرية مع الواقع. وانطلاقا من هذا العجز المزدوج قامت التحليلات على فهم مغاير للواقع المتغير أمامها. واستنبطت التحليلات النظرية سلسلة مقدمات جاهزة في النصوص والكتب لتقوم بتطبيقها بعناد على الحركة التاريخية التي تعيشها البلدان الإسلامية. وليس غريبا واستنادا للمقدمات النظرية الجاهزة أن تفترض الفئات السياسية الحديثة عدة آراء وبرامج وقوانين لا تستجيب لحركة الواقع ولا تقدم أي فهم مطابق للقوانين التي تحرك هذا الواقع.
هناك بعض الفئات الحزبية الحديثة استنتجت في تحليلاتها النظرية جملة فرضيات عامة سقطت بسهولة أمام تحديات الواقع والقوانين الفعلية التي تتحكم فيه. ومن جملة هذه الفرضيات العامة كانت محاولة إدخال الاستقطاب السياسية التاريخية في قنوات الفرز الاقتصادي وعندئذٍ استخلاص بعض التفسيرات «الطبقية» واستعمالها كنعوت سياسية لهذا الطرف أو ذاك. وبدلا من أن يكون التفسير التاريخي لحركة الواقع قائما على قراءة حقائق ملموسة تتشكل منها التيارات السياسية والاستقطابات الاجتماعية والفكرية قام التفسير الجاهز ومن منطلقات خاطئة في عدم ملاحظة التفاوت الحاد بين حركة التاريخ في الغرب ومجمل الحركات التي تواجهه على أرض مادية مغايرة لمنطق تطور الغرب. وانطلاقا من التطورات والخيالات النظرية الجاهزة عجزت الفئات الحديثة عن تقديم تحليل متماسك لظاهرة الاستقطابات الدينية ودور رجال الدين في معركة الحسم مع الغرب.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2142 - الخميس 17 يوليو 2008م الموافق 13 رجب 1429هـ