في أجواء صاخبة بأصوات موسيقى الجاز، والأحاسيس والمشاعر النسوية الناعمة، والشمس الاسكندنافية الدافئة، احتفلت المرأة الدنماركية هذه السنة بمرور 100 عام (اليوبيل المئوي) على السماح لها بحق التصويت، وشق الطريق للنضال من أجل الانعتاق والتطور والتنمية.
في هذه المناسبة نظمت الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والمنظمات النسوية في البلاد احتفالات راقية ومهرجانات في جميع مناطق الدنمارك، تليق بمستوى المرأة الدنماركية وعطاءاتها المستمرة في خدمة الدولة والمجتمع.
تحركت في مختلف المدن والقرى جحافل النساء والرجال والشبان يرقصون ويمرحون ويرفعون الشعارات ويلوحون بأعلام الدنمارك، وقالت إحدى النسوة المحتفلات في ساحة بلدية العاصمة كوبنهاغن «إن الاحتفال بهذه المناسبة تعبير عن كرامة المرأة ونضالاتها ومساواتها بالرجل والتضحيات التي قدمتها».
وأحيت وسائل الإعلام المحلية الذكرى المئوية بنشر ثقافة احترام النساء وتقدير خدماتهن في الدولة والمجتمع، وأصدرت صحيفة «البوليتكن» الأوسع انتشارا في الدنمارك ملحقا خاصا لتخليد هذه المناسبة، وتعريف المواطنين بدور المرأة الدنماركية ومحطات نضالاتها من أجل نيل حقوقها الوطنية وزع مجانا على القراء والجماهير المشاركة في الاحتفال.
وأشادت الخطابات السياسية والاجتماعية التي عبر عنها ممثلو الأحزاب والهيئات الاجتماعية الأهلية بالدور الريادي الرائع الذي لعبته المرأة الدنماركية في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية والتنموية في المجتمع على امتداد أكثر من 350 سنة متواصلة منذ زمن المجتمع الزراعي الإقطاعي مرورا بمرحلة المجتمع الصناعي الحرفي التقليدي حتى وقتنا الراهن.
لقد خطت المرأة الدنماركية خطوات كبيرة وسريعة وجادة نحو نيل حقوقها المشروعة ومساواة الرجل في مختلف مناحي الحياة العامة والتوظيف والانتخابات والترشيح والتصويت وتربية وإعداد الأجيال، بعد أن كانت في أزمان غابرة مع فئات وشرائح اجتماعية عدة (النساء والشباب والفقراء) محرومين دستوريا من حق التصويت والانتخاب والترشيح والمشاركة في صنع قرارات المجتمع.
ومنذ العام 1849، مع إعلان أول دستور للمملكة الذي فرضه الشعب على الملك الجبروت، ومن ثم التعديلات الدستورية التي أجريت عليه، مرت المرأة الدنماركية بعدة محطات مهمة في تاريخها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تمثلت بمنحها حق الانتخاب في العام 1908، وفي العام التالي 1909 تم انتخاب أول امرأة عضو إدارة المجالس البلدية، وفي العام 1911 توظفت المرأة لأول مرة كضابط في سلك الشرطة، وفي العام 1921 سمح للمرأة بالمشاركة مع الرجل جنبا إلى جنب في معظم ميادين الحياة العامة والتجارة وسوق العمل، فيما عدا الكنيسة والخدمة العسكرية (الجيش)، التي تغيرت النظرة بشأنها في زمن التحولات الشاملة والمشاركة المجتمعية الكاملة في تحمل أعباء الدولة والمجتمع.
تتمتع المرأة الدنماركية اليوم بثقافة حياتية عالية ووعي سياسي وحقوقي وتربوي وتجارب وخبرة ومهارات واسعة في العمل اكتسبتها بقوة وإصرار خلال مسارات نضالاتها الطويلة والشاقة على مدى عقود من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة والعدل حتى بلغت في بعض الأوقات أرفع المناصب الاجتماعية والإدارية والقيادية في المنظمات الأهلية ومؤسسات الدولة الرسمية.
المرأة الدنماركية (سيدة محترمة) داخل البيت وخارجه، فهي امرأة عملية وجادة ومسالمة، والنساء في الدنمارك يشكلن قرابة 40 في المئة من قوة العمل في البلاد، وتتمتع النسوة بمساواة تامة مع الرجل في الحقوق والواجبات والفرص الاجتماعية والاقتصادية المتعددة، وربما تتفوق عليه في بعض الامتيازات الخاصة برعاية الأطفال ومسئولية حضانتهم. وتتمتع المرأة الدنماركية كما غيرها في معظم الدول الأوروبية الغربية باستقلالها المادي عن الرجل، من خلال نظام المساعدات الاجتماعية الذي تقدمه الدولة لمواطنيها العاطلين عن العمل لأسباب معينة مثل عدم توفر الوظيفة التخصصية أو المرض أو التقاعد، بل ان بعض القوانين الاقتصادية تقف إلى جانبها أكثر منها إلى جانب الرجل وخاصة إذا كان لديها أطفال تعيلهم ومنزل بالغ التكاليف، ولا تشعر المرأة الدنماركية أبدا بأنها الطرف الأضعف، بل الأقوى داخل الأسرة أو بالنسبة إلى المجتمع.
ومعظم النساء الدنماركيات يرغبن بالتجديد والتغيير، ولكن لا يجرين دائما وراء صيحات الموضة الفاتنة، ويلبسن الملابس العادية والأنيقة وذات الأسعار الرخيصة والمتوسطة الثمن فقط.
تشارك المرأة الدنماركية في السياسة وتدخل البرلمان وتترأس الأحزاب السياسية في الحكم وفي المعارضة. ولا تلتزم المرأة الدنماركية بالعادات والتقاليد والشعارات الدينية أو تقديسها والتعصب المذهبي والانتماء الاثني، ولكن القليل جدا منهن وخاصة المسنات يذهبن للصلاة والتعبد في كنائس البلاد بقدر التزامهن التام بمبادئ وقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
والملكة مارغريت الثانية التي تتربع اليوم على عرش هذه المملكة هي رأس الدولة، وهي المواطن الأول في هذا البلد، وهي الإنسانة الفلتة في تأريخ المملكة، فهي رئيسة الدولة ورمزها، وهي فنانة تشكيلية بارعة (متبرعة بريع مبيعات لوحاتها الفنية إلى الجمعيات الخيرية وأطفال الدنمارك) ومثقفة ومحاورة ومناقشة للقضايا الاجتماعية والثقافية ومتحدثة وكاتبة ومترجمة وزوجة. وهي امرأة عصرية منفتحة على ثقافات عدة في علوم التأريخ والسياسة والاقتصاد. وقد أجمع رؤساء الحكومات الدنماركية المتعاقبون من اليمين واليسار في تشخيصهم لها أنها حيوية وجدية ومطلعة ونقدية ومنفتحة على الجميع.
لقد تعرف الدنماركيون على هذه الشابة طرية العود والمتحمسة في (15 يناير/ كانون الثاني 1972) عندما أطلت ولية للعهد حينها من شرفة قصر قلعة كريستيان بورغ، حيث أعلنها رئيس الوزراء جينس أوتو كراج ملكة للدنمارك بعد وفاة والدها فريدريك التاسع، الذي أحبته كثيرا وتأثرت برحيله، مات الملك فريدريك التاسع... عاشت جلالة الملكة مارجريت الثانية، وفي غمرة أحزانها، كان عليها أن تتسلم سدة الحكم في البلاد، وهي تسأل نفسها: هل أستطيع القيام بمهمة الحكم الصعبة بحيث لا يشعر الناس في البلاد بخجلهم مني؟ ولكن لن ينسى الدنماركيون ذلك اليوم القارس البرودة عندما دشنت الملكة الشابة وفي عينيها دموع الحزن والفرح معا علاقة حميمية مع الشعب الذي أحبها وقدر مواقفها الإنسانية وساعدها في بناء وتطوير هذه المملكة العتيدة، بعد أن وجد فيها روح المودة والحب والامومة الصادقة والمخلصة للوطن والمواطنين.
فلم يكن احد وقتها كان يعتقد أن تصبح مارغريت الثانية أول ملكة تحكم البلاد، حيث لم يكن الدستور الدنماركي في ذلك الوقت يسمح للنساء بالصعود الى العرش، ولكن كان ذلك ممكنا عندما تم تعديل الدستور في العام 1953، واجري استفتاء شعبي عام في الدنمارك سمح من خلاله بصعود النساء على العرش، فقد كان ذلك بلا شك اختيارا وقرارا شعبيا، وليس قرارا رسميا مفروضا فرضا على الشعب، كما هو الحال في غالبية الأنظمة الشمولية التسلطية التي تدعي دائما احترامها للحكم البرلماني الدستوري واحترام حقوق الإنسان.
وعلى رغم أنه تبعا للتقاليد الدستورية ترتفع الملكة عن النزاعات السياسية بين الأحزاب المتصارعة في السلطة، وألا تعبر عن آرائها السياسية، فإن ملكة الدنمارك مارغريت الثانية تعمل على قيادة البلاد بروح وطنية عالية وتجتمع بوزرائها أسبوعيا في مجلس الدولة، وتمثل بلادها في زيارات للخارج وتستضيف رؤساء الدول وتخرج في الشارع لملاقاة المواطنين وتفقد أحوالهم، من دون مواكب سيارة ولا حراس ولا من يحرسون.
دروس حياة المرأة الدنماركية ونضالاتها من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة مع الرجل في مسار الحياة العامة يجب أن تستفيد منها وتتعلم دروسها كل الشعوب في كل الأنظمة العربية وسواها في بلدان العالم التي لم تبلغ بعد مستوى التحضر والتطور الديمقراطي، وتناضل من أجل أن يتحقق العدل والمساواة والرفاهية والكرامة الإنسانية والمشاركة الشعبية الحقيقية في صناعة القرار والاختيار الحر للقوانين والأنظمة الوطنية.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 2142 - الخميس 17 يوليو 2008م الموافق 13 رجب 1429هـ