العرس اللبناني الذي ظهر أمس على شاشات التلفزة والفضائيات بمناسبة تحرير الأسرى تصادف مع اليوم الذي اصطفت الحكومة في القصر الجمهوري لأخذ تلك الصورة التذكارية إلى جانب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب. الصورة التي أعلنت رسميا عن البدء في إعادة تشغيل مؤسسات الدولة جمعت التعارضات وضمت في إطارها قوى «8 و14 آذار» إلى جانب وزراء من قوى مستقلة أو محايدة شاءت المصادفات أن تكون في موقع مشترك يتطلب الكثير من الجهود لتثبيت المشهد في إطار «الصورة التذكارية». الطموحات اللبنانية في لحظتها الراهنة لا تتجاوز حدود الاحتفاظ بتماسك تلك الصورة وما تعنيه من إشارات رمزية تلمح إلى إمكانات خروج البلاد من عنق الزجاجة.
المشهد اللبناني في يوم تحرير الأسرى من المعتقلات أعاد تركيب صورة مزقتها الحرب الأميركية - الإسرائيلية على بلاد الأرز في صيف 2006. فالصورة غير واضحة، ولكنها في خطوطها العامة جمعت التعارضات في لحظة من الفرح كاد أن يختفي في ضوء تلك الارتدادات الأهلية التي نجمت عن العدوان.
أكثر من سنتين عاشت خلالها القوى السياسية اللبنانية أصعب الظروف في وسط دمار هائل تحطمت من داخله جسور الثقة وشرايين الحياة، وأطاحت إمكانات تأسيس بدائل تستطيع تحمل نتائج كارثة إنسانية واقتصادية وعمرانية سقطت فجأة على مساحة جغرافية انكشفت برا وبحرا وجوا أمام عواصف إقليمية ودولية انقضت على بلد عانى طوال عقود من حروب دائمة.
المشهد جميل ومؤلم. الجانب الأول يبشر الناس باحتمال الدخول في طور جديد يخالف تلك الفصول التي خلخلت العلاقات الأهلية وفرقتها إلى مناطق انعزلت في داخلها الطوائف والمذاهب مسيِّجة قواها بالخوف والتخويف. الجانب الثاني يكسر تلك القوالب التي تموضعت في دوائرها مراكز قوى قررت أن تتحصن في مربعات أمنية تمنع الآخر من الدخول إذا كان ينتمي إلى هوية غير متجانسة.
يوم تحرير الأسرى شكل مناسبة لإعادة توحيد بلد مزقته الحرب العدوانية وفشل أهله في التفاهم على قراءة مشتركة تؤسس قواعد انطلاق للخروج من أزمة كبرى تتجاوز مساحته وحدوده الجغرافية. والمشهد اللبناني الذي ظهر أمس موحدا في «الصورة التذكارية» ولحظة استقبال الأسرى يرسل إشارات يمكن البناء عليها لإعادة هيكلة الدولة واستراتيجية الدفاع وخطة إعادة الإعمار. فالإشارات كانت قوية في رسم خطوات تبدو عاقلة في توجهاتها التصالحية وعازمة على تجاوز لحظات فتن جرفت معها الأحياء والبلدات وكادت أن تقوض الكيان وتوزعه على أمراء حرب ومناطق وطوائف.
المناسبة المزدوجة (تحرير الأسرى والصورة التذكارية) عكست حاجة لبنانية إلى نوع من الاستقرار الأهلي يضمن للقوى أن تأخذ مداها الزمني للصعود من الهاوية والدفع باتجاه ترميم مشهد تمزقت صورته وتشرذمت على زوايا قلقة على مصيرها وخائفة على وجودها.
الفرحة اللبنانية كانت عامة وعارمة وجارفة. فالكل ابتهج على طريقته وتعامل مع اللحظة انطلاقا من رؤية لا يمكن عزلها عن المنطقة أو الطائفة. الكل في هذا المعنى اجتمع رمزيا تحت يافطة الترحيب والتبريك والاحتفال بعودة الأسرى. وهذا الجمع الذي التقى في مكان واحد بعد تفرق يتطلب الآن المزيد من الجهد للمحافظة عليه حتى لا يعود الجمع إلى التفرق.
فرصة قد لا تتكرر
هناك فرصة للدولة والمقاومة والقوى السياسية قد لا تتكرر في المستقبل. فالتحرير فرصة وهي تشكل مناسبة للتصحيح والتصويب وخطوة ضرورية للبدء في تشغيل مؤسسات أخذت تتآكل بسبب العصبيات والانفعالات التي تولد غشاوة أيديولوجية تمنع التفكير والتحليل والقراءة واستيعاب الدروس واستنتاج العبر. فهذا الكيان الطائفي في نظامه والمذهبي في مؤسساته والإقطاعي في توزيع الحصص يعطل إمكانات التقدم ويعرقل احتمالات تطوير التجارب والتأسيس عليها لمنع الاختراق أو الانهيار. ومشكلة لبنان الدائمة أنه يتعرض دائما لاختبارات صعبة ولا يستطيع الاستفادة منها. والعجز عن الإحاطة بتعقيد الأزمات المستمرة ساهم في تكوين شخصية قلقة ومتوترة وغير قادرة على التكيف مع المتغيرات المحلية والإقليمية، ما أدى بأهله إلى تكرار الأخطاء والعودة بعد كل دورة عنف إلى المربع الأول. والمربع اللبناني الذي يجمع ويفرق تأسس على آليات طائفية ومذهبية لا وظيفة لها سوى توليد أزمات للدولة. وأزمات الدولة التي تمنع المؤسسات من الانتقال من الطائفة إلى طور المواطنة هي الأزمات نفسها التي واجهت المقاومة وعطلت عليها إمكانات النمو والتمدد في مختلف المناطق. الأزمة التي واجهت خطاب المقاومة تشبه تلك الأزمات التي تواجه الدولة منذ تأسيسها أو استقلالها. فالمشكلة مشتركة وهي خارجة على إرادتي الدولة والمقاومة في آن، باعتبار أن آليات النظام تولد قوى طائفية ومذهبية غير قادرة على إدراك مقومات الدولة أو تفهم منطق المقاومة. وهذه المشكلة عضوية وبنيوية وتحتاج فعلا إلى صورة تتجاوز المشهد التذكاري وتلك اللحظة العفوية التي عمَّت المناطق اللبنانية.
الدولة والمقاومة تلاقتا أمس على خط أدنى مشترك. وقوى 8 و14 آذار توافقت أيضا على تبريك الانتصار الذي تولّد من تحت الركام وبعد عدوان دام نحو 34 يوما. أمس كان لحظة مشرقة في لبنان بينما عاش الجانب الآخر من الحدود الدولية فترة مضطربة دفعت بقواه السياسية إلى إطلاق صيحات انتقام وثأر مقابل تصريحات تتحدث عن حزن وألم. واضطراب الجانب الآخر يكشف عن انقلاب في الصورة. فالمشهد اللبناني سابقا انتقل إلى تل أبيب والمشهد الإسرائيلي سابقا انتقل إلى بيروت. وتبادل المواقع في لحظة تبادل الأسرى يشكل بدوره مناسبة للانتباه من احتمال الغدر ومحاولة العبث بالمسرح اللبناني والدخول مجددا في لعبة الكراسي وخلط الأوراق وتعديل زوايا الطاولة.
هناك فرصة لبنانية للخروج من الهاوية والتقدم باتجاه ضبط العلاقة بين منطق الدولة ومنطق المقاومة في إطار استراتيجية دفاعية تعيد هيكلة الكيان وتخطط لإعادة تأهيل القوى السياسية باتجاه يتجاوز العصبيات الضيقة حتى يكون البلد مستعدا لتقبل المتغيرات من جانب أو متنبها لاحتمال الرد أو تسديد ضربات غادرة.
أمس أشرق لبنان من شماله إلى جنوبه والمهم ألا يغرب المشهد اليوم وغدا ويتلاشى مجددا وراء الأفق. فالصورة التذكارية التي تصادفت مع لحظة تحرير الأسرى حملت في دلالاتها السياسية إشارات رمزية إيجابية يمكن البناء عليها لتأسيس مستقبل يستقر عليه الكيان. وهذه الصورة التي تشكلت تلقائيا تعكس في النهاية تلك الحاجة اللبنانية نحو الفرح والسعادة. فهل تنجح القوى السياسية في تأكيد بهجة الانتصار وتطويرها والتأسيس عليها أم تعود إلى سابق عهدها للغرق في حقل ألغام نظام الطوائف والمذاهب؟ لننتظر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2141 - الأربعاء 16 يوليو 2008م الموافق 12 رجب 1429هـ